محمد دحو
الجواز، قصة قصيرة ،محمد دحو

قبل سفري بيومين إلى اسطنبول، طلب مني أحد أحد الأصدقاء السوريين العاملين معي، واسمه مثنى، أن أحمل أمانة إلى عائلته التي هاجرت من هول الحرب الدائرة راحاها في سوريا إلى مدينة غازي عنتاب، لم يقل لي بصراحة، ماهي تلك الأمانة التي يريدني أن أنقلها إلى أسرته، واكتفى بالقول، إنها مجرد أغراض بسيطة جدا، تحملها في غلاف بريدي، فيه أمانة، وبعض الدولارات، مساعدة لأهلي وإخوتي الصغار، وسيكون والدي في انتظارك في المطار، ثم سكت.
لقد كنت من أوائل المتعاطفين مع الأشقاء والإخوة، هنالك في ذلك الجحيم السوري، بل إن شعوري الوجداني والإنساني الفياض، تجاه أولئك المساكين والمستضعفين، ممن تقتلهم طائرات الأسد بوحشية ليس لها مثيل في التاريخ، دفعني إلى المجاهرة أمام المسؤول المباشرعن برامج قناتنا، بضرورة الإهتمام بالشأن السوري، الذي تمزقه الحرب الشرسة في غفلة من التاريخ.
نظر إلي السيد مسؤول التحرير في البداية باستغراب ودهشة، دون أن يعلق على كلامي، قلت له بسخط وتوتر، نعم، ينبغي أن نقول الحقيقة عما يجري في سوريا، وألا نسكت عن تلك الجرائم ضد الإنسانية هنالك، رأيت ملامح وجهه تتغير شيئا فشيئا، لكنه ظل صامتا لا ينطق، تخيلته مثل تمثال أخرس، شرحت له كثيرا من ملابسات الوضع على الأرض، وحقيقة ما يجري كما نسمعه من بعض الزملاء، والأصدقاء السوريين، نقلا عن أسرهم، وعن بعض ناشطي الداخل على الأرض، وليس كما نقوله نحن، أو بعض وسائل الإعلام الأخرى، لكنه لم يعلق على كلامي، وظل واقفا مثل عمود كهرباء بلا حركة أو فعل، سادت بيننا لحظة صمت رهيب، رفعت رأسي في سخط وازدراء، دون أن أنظر في عينيه، ورحت أجول ببصري في أرجاء مكتبه الفخم، تخيلت ما في درج المكتب من أوامر، وتوجيهات، خاصة بالملف السوري، لم يقل شيئا، ابتسمت بغيض وعصبية، ثم انصرفت لحالي.
في اليوم الموالي وصل صديقي مثنى متأخرا عن الموعد، وكنت لا زال أنتظره في مقهى الجزيرة، عانقني ثم انخرط في بكاء لم أعرف في البداية ما سببه، سألته بلطف لماذا تبكي يا رجل؟
قال لي وقلبه يتقطع، لقد قتل أبي برصاصة غدر من بلطجية النظام، قبل أن يتمكن من الهروب عبر الحدود السورية التركية.
وانخرط مثنى في بكاء مر، خلته سيموت بعده من شدة الألم والصدمة، لم أجد ما أفعله سوى أن أواسيه بما استطعت من كلمات أخوية، صادقة ، ظللت أعزيه بحرارة وأسأله الصبر، على والد شهيد، لكنه لم يكف عن البكاء، شعرت بالعجز وقلة حيلتي، لقد تأثرت تأثرا شديدا، لمقتل والد مثنى، ولكل من يقتلون بلا ذنب، بعدها أغمي على مثنى وفقد وعيه، ثم شهق وظل يشهق ويزفر، كنا نصب الماء على وجهه، ورأسه ورقبته، ونهزجسده المتهالك هزا، كما سارعت إحدى الزميلات إلى حقيبة يدها، وراحت ترش وجه، وأنفه بعطرها الطيب، لعله يفيق من غيبوبته، كان مثنى مثقلا بالحزن واليتم والأسى، كان مثل الميت الحي، بعد دقائق أفاق من غيوبته، وراح يستعيد وعيه شيئا فشيئا، عانقني والدموع تطفر من عينيه بغزارة.
كان وجهه منتفخا، وكان جسده النحيف يتفصد عرقا وحرارة، وكانت عيناه محمرتين كالنار، ارتعشت يده أكثر، ثم أصبحت ثقيلة الحركة، وكان عاجزا عن أي شيء، دمعت عيناه، وقال لي بانكسار، هذه هي الأمانة التي ستحملها إلى أهلي في تركيا، وسيكون أخي الأصغر في انتظارك في المطار، بدلا عن أبي الذي لن ننتظره أبدا بعد اليوم، وانخرط في بكاء مر.

في المطار انتابني شعور شديد بالخوف والفزع، لكني تماسكت بقوة، واستدركت وضعي النفسي، لابد أن أبدو عاديا، ومن غير حرق ظاهر للأعصاب والنفس، أظهرت جواز سفري، وأتبعته ببطاقة الطائرة، وابتسمت دفعا لأي شبهة أو شك، لقد وضعت الأمانة، وهي عبارة عن غلاف أبيض مغلق، في حقيبة سفري، مطمئنا على أوراقي، وما اصطحبته معي من فلوس، وتذكرة السفر، وبطاقة الطائرة، وضعت كل ذلك بمحاذاة جهاز الأيباد، وكامرا يد من نوع صوني، صغيرة الحجم، ولم أنس خيط شحن هاتفي الجوال.
خلعت حزامي، ونزعت فردتي حذائي، ورميت مفاتيحي وحافظة نقودي، وبطاقات أخرى، في سلة سوداء، مررت بعدها خلال جهاز المراقبة الذي أطلق رنة إنذار مفاجئة، ظللت بعده أدخل وأخرج عبر ذلك جهاز المرعب، لكن إنذارته كانت تنطلق مدوية كلما اقتربت منه.
سألني الشرطي في أدب هل عندك شيء؟
قلت مبتلعا ريقي، لاشيء.
تذكرت الأمانة، وتلك الدولارات، ورأيت صديقي مثنى كأنما يغمى عليه من جديد.
لامست يد الشرطي جيبي مفتشا، وكنت أرتعش من الذعر، كدت أقول له، إنه جواز صديق سوري، مقيم في الدوحة، ونعمل معا في نفس القناة.
ابتسم الشرطي في وجهي، مشيرا إلى المفتاح الذي لم أنتبه لوجوده في جيبي لصغر حجمه، وانطلقت إلى بهو المطار بعد ختم الجواز، أخذت قهوة على عجل، ثم دخلت الحمام، حتى أتأكد من وجود الأمانة في حقيبتي، وتنفست الصعداء.

كنت أمشي في تقسيم منذ الصباح الباكر، في انتظار اتصال من عائلة مثنى، جلست في ميدانها ناظرا إلى تمثال الحرية، تذكرت الشغب والقنابل، المسيلة للدموع في ذكرى الحب كما وصفوه، كان ثمة سوريون كثر، من الأطفال والنساء والرجال، وكان النصب التذكاري للجمهورية، ملاذ اليمين واليسار، وكثير من ضحايا العنف والمواجهات، هنا ماء الفضة وجائزة المهرجان، هنا يبدأ كل شيء وينتهي كل شئ. لكن لم يتصل بي أحد حتى الآن، أرسلت له على عجل رسالة (أس أم س)، لكن مثنى لم يرد، لعله كان نائما بعد دوام ليل متعب.
كنت كمن يتقلب على النار، كنت أخاف أن يضيع مني الجواز، أو أتعرض لتفتيش مفاجئ من الشرطة التركية، تذكرت مزوري الجوازات، والهاربين إلى أوربا، لابد من المشي أكثر، حتى لا يثير وجودي أي انتباه أو شبهة، شعرت بالجوع يطحن أمعائي، سال لعابي، اشتهت نفسي صحن شوارما وعصير رمان، أوحلوى تركية يسيل لها اللعاب، ولكني قررت ألا أكل ولا أشرب، حتى أؤدي الأمانة إلى أهلها، فماذا أفعل وإلى متى أظل أنتظر؟.
قال لي الحلاق الذي دلفت إلى محله في شارع الاستقلال، بود ظاهر، لايمكنك أن تدرك سر هذه المدينة في يوم وليلة، ومضى يضرب بمقصه شعر رأسي، وهو يغني، كان صوت المقص كأنه يضرب قلبي، كان الحلاق رجلا بشوشا محبا لكمال يا شار، وعاشقا للموسيقى التركية التي كانت أنغامها تنساب في أذني، سألته عن سبب التواجد الكثيف لرجال الشرطة، هنا في ساحة تقسيم، فقال إنه لا يعرف، ثم أضاف بجد وحزم، هناك تشديد أمني في اسطنبول بسبب الحرب في سوريا.
تأملت المرايا التي يشتهر بها الحلاقون، رأيت تفاصيل رأسي وجلستي وكل جسدي في المرآة، تذكرت جواز صديقي مثنى، خفت أن يسقط مني، أو يظهر في هذه المرايا الفاضحة، أحسست بقلبي يدق من جديد، وظلت يدي على الحقيبة، وعيني على الهاتف.

الدوحة: 23 جويلية 2015

محمد دحو
*كاتب وإعلامي جزائري مذيع بقناة الجزيرة