محمود شرف في الميكسيك
محمود شرف في الميكسيك … السماء الواحدة

[ngg src= »galleries » ids= »14″ display= »basic_thumbnail » thumbnail_crop= »0″]

بمجرد أن تطأ قدماك أرض مطار « بينيتو خواريس » بمكسيكو سيتي سينتابك شعور غريب، فبعد رحلة طيران استغرقت أكثر من خمس عشرة ساعة ستتوزع رغباتك بين أمرين: الحاجة إلى الراحة، و الانسياق وراء الرغبة الملحة في اكتشاف تلك الأرض البعيدة، الوجوه في كل مكان مألوفة، لون البشرة يوحي بهذا الشعور، لكن الملامح تختلف كليا، و يقضي اختلاف اللغة على ما تبقى لديك من إحساس بالألفة، إنجليزيتي –على قلقها- لم تسعف ، فلا أحد هناك يتحدثها تقريبا، فقط الأسبانية، و حتى هذه لن تجد شبها كبيرا بينها و بين أسبانية الأسبان أنفسهم! يظل هذا ملازما لك حتى تبدأ في التعامل مع الأشخاص هناك، تنكسر كل الحواجز ويشع الدفء المنبعث من أرواح المكسيكيين الذين لا يختلفون كثيرا عن الروح العربية التي نعرفها من حيث الطيبة، والمزاج المرح في أغلب الأحيان، والاحتواء الإنساني.

في شوارع « مكسيكو سيتي » يبدو كل شيء هادئا، مرتبا، يسير وفق منظومة كلية، كأن يدا خفية ترتب حركة البشر، والسيارات، رغم أنها من أكثر المدن ازدحاما على وجه الأرض، حتى في موقف الحافلات، النظام الصارم يسيطر على المشهد. بعد كل هذه الساعات التي طرتها حان وقت ارتياد آفاق المكسيك نفسها عبر حافلة، لمدة ست ساعات أخرى، لم أر الكثير لأن الليل حجب الرؤية، لفت انتباهي فقط أن الطقس المتقلب لا يؤثر أيضا في سيرورة المشهد، ففي ساعات انتظار حافلتي التي ستأخذني إلى مدينة « سامورا » الشمالية، بدأ الرعد يضرب السماء و أمواج البرق تتوالى، وهطل المطر غزيرا، قلت لنفسي: هذا الطقس لا ينتمي إليه مثلي! قبل دقيقتين كانت درجة الحرارة تقترب من الثلاثين، والآن تحولت إلى ما لا يتجاوز الست عشرة درجة، بينما درجة الحرارة في القاهرة في هذا الوقت لا تقل عن الأربعين، نحن في يونيو!!

في الحافلة كان ما يقلقني أن موعد وصولي سيكون في الرابعة فجرا بتوقيت المكسيك، الأصدقاء حذروني قبل السفر من الحالة الأمنية المضطربة، خصوصا في ساعات الليل، أردت سؤال أي شخص عن كيفية وصولي للفندق، وهل هذا الفندق الذي أخبرتني باسمه إدارة المهرجان من قبل، هو فندق معروف في المدينة، أم لا ؟ سألت شخصا يجلس على مقربة مني في الحافلة، لم يفهم لغتي الإنجليزية، فأخرجت هاتفي اللوحي و بدأت رحلة أخرى داخل أروقة الإنترنت، ذهبت إلى خدمة جوجل للترجمة، و كتبت السؤال بالعربية، ترجمته إلى الأسبانية وأريته إياه، بدأ حوار طويل بيني وبينه عبر هذه الطريقة!! أسفر ذلك عن أنه قادني عندما وصلنا إلى موقف سيارات التاكسي و أعطى الرجل العنوان و سلّم عليّ ثم مضى في طريقه تحت زخات المطر الخفيف.
« سامورا » مدينة هادئة، ناعمة، تحتفي بالغرباء، تتنتشر في جوانبها عربات تشبه عربات البطاطا لدينا، لكنهم هناك يبيعون خليطا من قطع الفواكه الاستوائية، وتحدها الجبال من كل اتجاه، وتتبعثر على جغرافيتها الكاتدرائيات القديمة، ولا يسألونك أبدا عن ديانتك كذلك!

في الليل، بدت مدينة للأشباح، لكنها في الصباح لم تكن كذلك. خرجت لأتجول في طرقاتها وحدي في الصباح، محاولات كثيرة لإفهام الرجل في متجر الإليكترونيات أنني بحاجة إلى أداة لتوصيل شاحن أجهزتي الكهربائية بمدخل الكهرباء المختلف كليا عن شكله في مصر، نجحت أخيرا، ومضيت لأجلس على مقهى « كافيتيرا ماديرا » في محيط الساحة الكبرى بالمدينة « لا بلاسا » ، أمضيت ساعات هناك أتابع الوجوه، والأصوات، دون أن أفهم حرفا مما يقولون، لكنني شربت القهوة، و تناولت طعام الغداء، « جوجل » أيها العبقري.. كم أنت رائع!!

حينما عدت إلى الفندق سألتهم في الاستقبال إن كان أحد قد سأل عني ، فأجابوا بالنفي، لكنهم أخبروني أن أحد الشعراء، طبقا للوائح المهرجان، سيقاسمني الغرفة، و أنه وصل بالفعل، ووضع أشياءه في الغرفة، فطلبت تغييرها متحملا الفارق المادي، فطلبوا مني النقود، دفعت حوالي ألفا و ثمانمائة « بيسو »، ما يعادل ألفا و أربعمائة جنيه مصري، و انتقلت إلى غرفة جديدة، بعد قليل، دق الباب شخص ما، فهمت من كلماته أنهم يريدونني بالأسفل، حينما ذهبت وجدت الشعراء قد وصلوا، و انفتحت عوالم أخرى؛ صخب، وأصوات ترحيب، أحضان وقبلات، وأنا منزو على أريكة أتابع المشهد، لا أحد يعرفني ولا أعرف أحدا أيضا، سألني أحدهم بالأسبانية، فأجبت بالإنجليزية أنني لا أعرف الأسبانية، وجدت واحدة منهم تقترب مني و تتحدث إليّ بالإنجليزية بطلاقة، لا أعرف إن كان أحد منكم قد جرب قبل ذلك إحساس عثور الغريق على لوح عريض من الخشب في عرض البحر؛ ذاك كان إحساسي بالضبط، إنها « بيلار رودريجس أراندا »، شاعرة مكسيكية، تشارك معنا في المهرجان، وتعمل مترجمة بالأساس، صرت من هذه اللحظة طفلها الذي لا تذهب لمكان دون أن تصطحبه.

في صباح اليوم التالي كان افتتاح المهرجان، جمع غفير في ساحة مبنى البلدية، رئيس المدينة، ووزير ثقافة مقاطعة « ميتشواكان »، و مدير المهرجان « روبرتو ريزيندس »، هذا الشخص الدمث، الذي أسميناه أنا و « بيلار » : « مستر إكس »، حيث عنفنا أكثر من مرة لكوننا نترك الأمسيات الشعرية التي يقرأ فيها أقراننا لكي نجري حوارات صحفية، تصحبني فيها « بيلار » لتترجم بيني و بين المحاورين، كان يظهر فجأة، رغم محاولاتنا الدءوبة للاختباء بعيدا عن المكان! انطلقنا بعد الافتتاح إلى مدرسة « …… » حيث كان الموعد للقراءة الأولى، يشترك معي في الجلسة « بيلار » وشاعر مكسيكي آخر هو « سيزار جونساليس بونيّا ».

في ساحة البلدية، بعد أن انتهت فعاليات الافتتاح بكلمات المشاركين التي لم أفهم منها سوى ما ترجمته لي « بيلار »، وكان أجزاء من كلمة وزير الثقافة، كانت كلماته عبارة عن محاضرة في أهمية الشعر، وجدواه، وجدت فتاة لطيفة تحمل علم دولة الإمارات العربية المتحدة و تقترب مني مبتسمة، بادلتها بسمة مندهشة، حيث لا يشترك سواي من العالم العربي بأكمله في هذا المهرجان، فمن أين أتى علم الإمارات؟ وجدتها تتحدث إنجليزية متعثرة، و فهمت أنها اعتقدت أنني من الإمارات، فطبعت العلم، كلفتة طيبة منها، وخاب أملها حينما أوضحت لها الخطأ، لكنني حاولت جاهدا أن أشكر لها هذه اللفتة الكريمة، كانت مرافقتنا للندوة، قمت حينما وصلنا إلى المدرسة بإجراء تعديل بسيط على ألوان العلم ليصبح علم مصر، بعد أن طبعوا سريعا نسرا ذهبيا توسط العلم، قلت لها : الآن صار أفضل، رغم أن مصر و الإمارات بلد واحد تقريبا، لكن هكذا أكثر دقة.

تحب « سامورا » الشِّعر، وتنتمي له، وأنا شاعر، ذهبت لأقرأ قصائدي بالعربية، وتلقيها صديقتي الشاعرة المكسيكية « بيلار » بالأسبانية.. أمامنا جمهور غفير، في ساحة البلدية، في ثاني جلسة أشترك فيها، الاستجابة من الجمهور لصوتي العربي كان بالغ الدفء، « بيلار » أيضا تقرأ بشكل رائع، مختلف عن الطريقة المدرسية التي يقرأ بها كل المشاركين الآخرين تقريبا، كانوا قد طلبوا مني عدة نسخ لكي يضعوها في معرض الكتب الموازي للأمسيات، لم أعرف أنهم يبيعونها لصالحنا، و يعطوننا الثمن حينما ينتهي المعرض، كانت « بيلار » قد حددت السعر؛ ثمانون بيسو لكل نسخة، بعد أن انتهت الأمسية التي اشتركت بها، كانت الثالثة و الأخيرة لهذا اليوم، وجدت « بيلار » تعطيني أربعمائة بيسو. اشتروا النسخ الخمسة التي وضعتها، قالت لي « أنت الآن أغنى شاعر في المكان، و كتابك كان الأغلى كذلك ».

بعد هذه المشاركة التي حضرها كل شعراء المهرجان تقريبا، انكسرت كل الحواجز بيني و بينهم تقريبا، اعتدت على مدار اليومين أن أوقّع « أوتوجرافات » للطلبة و الجمهور العادي، لكنني بدأت مرحلة توقيعات أخرى للشعراء أنفسهم، لم يكن الأمر معتادا بالنسبة لي، على الأقل في مصر، لو أبليت بلاء حسنا في أمسية ما فلن تحصل من زملائك الشعراء على أكثر من إيماءة بالرأس، هنا لا ضغائن، ولا حساسيات في الأمر، يعتبرون نجاحك رفدا لنجاحاتهم، حتى بعد أن اكتشفت أن هذا تقليد بين الشعراء، أن يتبادلوا التوقيع على الصفحات الخاصة بكل شاعر في الببلوجرافيا التي طبعها المهرجان، على الأقل كسرت قراءتي كل الحواجز بيننا، التي صنعها اختلاف اللسان بيننا في البداية، صرنا نتبادل النكات، واكتشفت أن بعضهم يعرف الإنجليزية، لكنه يخجل من استخدامها ظنا منه أنها سيئة، لكنها كانت كافية لفتح حوارات بالغة الأهمية حول الشعر و التاريخ، والسياسة أيضا، كانوا مندهشين من كوني أعرف أسماء بعض مدن بلدانهم، اندهشوا أكثر حينما أوضحت لهم بعض الكلمات التي اكتسبتها الأسبانية من اللغة العربية، مثل: الأرز، والسكر، وأسماء البلدان في أسبانيا، لم يكونوا يعرفون أي شيء عن عالمنا العربي، سوى « ألف ليلة وليلة »، و حتى هذه، قام أحدهم بنسبتها، وهو الكوستاريكي « كارلوس » الذي رافقني في مكسيكو سيتي فيما بعد، إلى الفارسية، أوضحت له خطأ ظنه، حاول كثيرا أن يثبت لي العكس، لكنه اكتشف أنه كان معتمدا على مصدر وحيد على شبكة الإنترنت، وكان مصدرا مجهولا كذلك.

لا يضاهي جنون اللاتينيين بالشعر إلا جنون كرة القدم هناك، كنت في مهرجان الشعر الدولي بسامورا- ميتشواكان أثناء إقامة كأس العالم بالبرازيل، في اليوم التالي الذي وصلت فيه إلى مكسيكو سيتي، كانت مباراة الكرة بين المكسيك و البرازيل، في الساحة الكبرى هناك وضعوا شاشات عملاقة لمتابعة المبارة، لم أسمع أصوات زئير أعلى من تلك التي سمعتها من الحشود الضخمة التي اجتمعت في هذا المكان، صراخ مهول كان ينبعث منهم كل دقيقتين تقريبا، ظننت، وأنا مستقل حافلة سياحية مكشوفة تجولت بي في أرجاء المدينة، أن المكسيك قد هزمت البرازيل بعشرة أهداف، حينما انتهت الجولة سأل صديقي الشاعر الكولومبي الذي رافقني في الجولة « دييجو » عن النتيجة، أخبرني أنها صفر مقابل صفر!! الجولة انتهت بعد أن زرنا المتحف الطبيعي، الذي لم نستطع التجول في أقسامه كلها، كان الأمر سيحتاج منا ثلاثة أيام، أضخم المتاحف التي زرتها في حياتي تقريبا، وضعوا فيه تاريخ المكسيك منذ بدء الخليقة حتى العصر الحديث.

ربما لم أكتف من هذه البلاد الدافئة، وربما لا تكفي ثمانية أيام لمعرفة الكثير عن بلد غريب، لكنها كافية جدا لكي تشعر بالدفء الإنساني الذي يحيطك من كل اتجاه، تكفي لمعرفة أن السماء التي تظلك في قلب القاهرة، هي نفسها التي تحنو عليك و أنت تسير تحت سحبها في شوارع المكسيك، على الأقل، نتنفس نفس الهواء، ونجتمع على محاولاتنا الأبدية للبحث عن الروح

بقلم : محمود شرف