قسنطينة - كلمات
لا تغرق ، تشكيلات جديدة لمالك حداد ،تخريج : إلهام بورابة

لا تغرق

في البدء…لم يكن كاتبا
كان يعيش….ولا يحيا
يتلاطم في سكينة الجسد
واحدا من الملايين .
ثمّ…
يتراكم الإحباط / الشّقاء
ثمّ هاهوالشّقاء ذاته في خطر يوم  الثامن من ماي 1945
فليشتغل بالكتابة …فورا…، ليصرّح أنّ  شقاءه « مرض عصبيّ ».وكان التصريح في أوّل بوح له  » الشقاء في خطر ».
مثلما صرّح فرانتز فانون إغاثةً لشعب مصاب جرّاء ممارسات العنف الاستعمارية.
هذا المرض الجمعيّ يتقدّم للإحباط الأخير/ الثّورة. فيأتي  بوح الكاتب  » الانطباع الأخير ».
فرانز فانون يقدّم دراسة حالة / دراسة شعب.
وكأيّ حلة نفسية يبدأ الكاتب مدركا تماما شقاءه ، يستشعر الخطر ثم يتورط في الغموض ……
يغرق.
لكنّه يكتب:  » لا تغرق أبدا  » /ميكانيزم دفاع. في بدء مصابه / الشقاء في خطر
 » ستجعلك الحمى تعرف بلادة الغرق/ العرق »…يكتب هذا أيضا
لا تغرق.
 » استعدت رشدي حين أضعت عقلي »/ يغرق. لم يستطع المقاومة كأي حالة مرضية في أوّل تقدّم لها للعلاج. لكنّه واع تماما بحالته ، ما أن دخل عوالم الجنون / فقدان العقل ، يكون قد وصل إلى تمام الرّشد ، الرشد ليس ما يدّعيه الحكماء والعقلاء ، الرشد رشده ووحده يعلم كيف يقيّم معاييره ، ما يجعل الآخرين راشدين ، ليس بالضرورة هو ما يجعل كاتب منحدر من مقاومة راشدا. الرّشد في حالته أن يكتب ويكتب ويكتب  كحضارة تدرّجت في بنائها من عصر ما قبل التاريخ إلى عصر الكتابة أنّى بدأت العصور التاريخية.
 وبالتّدريج….
الحالة النفسية / الكاتب ، تدخل مأزمها ، تستنجد بميكانيزمات دفاع نفسية /الإيحاء النفسي:
       -يدرك الكاتب اشرافه على الغرق
      يوحي لذاته « لا تغرق أبدا »
      و-يقرّر أخيرا : « ستجعلك الحمّى تعرف بلادة الغرق »/ الهذيان والهلوسة  
تغرق الحالة/ الكاتب
وتعرف بلادة الغرق/ البوح/الرشد النفسي فيكتب سأهبك غزالة.
سأهبك غزالة، هذيان / بوح ، صرّحت مدام جيزال./ الغرق/ المرض العصبي.
وكلّ ما أتى من بعد ، ماهو إلّا   بوح لا غير ، تداعي حرّ مادامت الحريّة المعاشية مكبّلة. حتّى والكاتب في المنفى حيث رصيف الأزهار يجيب ، فهو مكبّل ، لأنّ روحه عالقة بالرصيف هناك الذي لا يجيب ، رصيف حيث  بيته ومقبرة اليهود والمحجرة وحيث بيتي . جسد هنا فارغ ، وذاكرة غضّة ممتلئة كأنثى هناك ، فكيفما التأم الجسد بالذاكرة كان علاج الحالة.
******
هل يعود الكاتب إلى أرض قاوم كتابةً لأجل أريجها ؟ أديمها؟ رصيفها؟ زهرها؟
أجل . عاد الكاتب معطّرا بالحرية ، مشّاء في ظلّ الاستقلال  في الصحراء وفي التلال وفي سواحل الأبيض، يلوّح لأراغون.
فرحا بالوطن ، يظنّ الشفاء في زغاريد النسوة وفي أهازيج القبائل  وفي أغريد الصغار يصدحون بالعربية منطق طير حرّ ، لكنّه ظلّ الطّير  المكبّل بأغصان لغوية شوكية كلّما غنّى إلــتوتْ  على حنجرته  وضغطت على اللحن فيأتي غريبا في أرضه .يا ألله ، أغربة في ظلال الوطن؟
من أين يأتي الشفاء؟ تستمر الحالة في صراعها ، والمرض العصبي لا يبرح النفس ،  والرّشد/ الكتابة، لم يعد يأتي بجدواه.  ليعود الكاتب لأوّل عهده ،وأعلن أنا ، حالة نكوص بعد تقدّم مهمّ في الشفاء. ويبلغ الأسف مداه حين يُعلن الكاتب ميتا دون بلوغ غاية العلاج.
******
إنّ الأقدار لا تموت تماما ، .فمنها ما يظلّ للمحاكمة ، ومنهاما يظلّ للإنصاف،ومنها ما يظلّ للاستشفاء.وكثير منها يبقى لإمداد الحياة بالحياة.
ذاكرة الجسد لأحلام مستغانمي  طفو / نجاة / شفاء.
في تقنية متأخّرة ، يركّز العلاج النفسي على إعادة الإدراك بالجسد لإعادة الإدراك بالأنا .
***********
والآن….
هاهو الكاتب ينكتب بالحروف التي شاءها
إنّه داخل الوطن
داخل أناه
بأثاث
على الرغم من أن خيانة قد عبثت بأصل الأثاث وأعادت ترتيب المساحة حتى الابتسامات، لكنّ الشمس مازالت هي ذاتها التي تنشطر على سلّة المهملات قطعا منثورة قد يجمعها الظّلّ مساء عند قدم الخزانة أو تتوارى إلى النوافذ لتسرّب ظلّ الجدران إلى الخارج.
إنّه انكتب بالحروف التي شاءها وهذا هو الأهمّ، أليس هذا ها كان يريده كاتب ، الفرنسية منفاه؟
لا يستطيع الكاتب أن ينكر لسانه الفصيح / أحلام. مستغانمي
كان وهما صار حلما ………..يصير إلهاما .
إني أمضي بالحالة إلى اكتشاف شفائها.
ذاكرته / أحلام ، رغم ما أحدثته من زعزعة أثاث ،أرسته ، أعادت الأنا الضّال إلى جسدها .
الذاكرة غيّرت أثاثا قديما، لأن الغبار التصق بمساماته وشكّل طبقة أخرى على الخشب فغطّى الغابة /غابة الصنوبر ،هي لم تقطع الغابة وهذا أمل كفيل أن يجعله يتسامح و ما حدث من جديد على خرابه.
الكاتب شاعر
والذاكرة شعر
حيلة أخرى ليستوطن الجسد ، فالجسد أحقّ من الأثاث بالحياة.
*********
إنّي أراه/ الكاتب…رؤية العين
قادما من محجرة « قانص » حيث قامت البنايات الجديدة / إزاحة للأثاث القديم
وتكدّست الفوضى على تدرّجات المحجرة .
وحدها الأجساد تكابد
لكن مقبرة اليهود ما تزال أعلى تطلّ على الرؤوس التي ورثت المكان ، كان رأسي صغيرا يطلّ على الصخرة الكبيرة المتهاوية حربا ثالثة ، وكان رأس وهيبة بعدي ، وأبناء السراب.  يجب أن أخبرك بهذا أيها القادم إليّ في الإلهام تتعرّف إلى أناك في يدي. على أدراج المأساة..
بمحجرتي قانص وطنوجي..
هناك ..
حيث ارتفعت العمارة..
من حمل الحجارة الثقيلة
على أكتاف الآباء
هناك..
حيث سقط بعضهم
من أثر المسبة..
والمهانة.
هناك أيضا سقط اليهودي..
فكن شجاعا..
أنت يا يافع اليوم
شقّ الصّخرتين
زهرتين..
فما من زهرة مكبوتة..
تشق الصّخرة
إلّا برغبة مكبوتة..
في الضّياء
***********
الألعاب اللغوية لم تعد بذات الذكاء
كأن اللغة أخذت من الجديد معنى لكل لفظ فلا مجاز.
يمكننا أن نمرر أفكارنا إلى مالا يسعه الفهم
 » لاكاريار » أفهمها مثلما أنت تفكّر ، مدام جيزال لا تفهم منها إلا  » المسار »
حلية تأخذ مقامها في معصم المدينة ، حيث بيت عزيزة وبيتك ودروب الياسمين ونهج السيدات وشاطئ 304/ رصيف أزهار يجيب.
********
كان الكاتب بين الحلم / أحلام،و اليقظة / أنا ، يروي غزالته  من دم الميت عطشا في الصحراء. بين الوهم والحقيقة / الماضي الذي يحضر مستقبلا.أليس هو الحاضر في ذاكرة الجسد؟الراوي بضمير  » أنا ».؟
يمكنني أن أجازف وأعلن أن الكاتب انفصامي في كتاباته ، متحدّ بأناه في ذاكرة الجسد ، مدركا لأناه في نصّي.

*******
الكاتب الذي لا يصرّح ب « أنا » كاتب تحتجزه المعاناة / الشقاء، يظل يشير إلى « هو » الظّلّ ، الثائر ، المتمرّد.
لكنّه حين وصل إلى أناه ، بدا منسجما متكيّفا إلى حدّ التصريح  » أنا…فعلت »
قالت جيزال عن روايته سأهبك غزالة  » هذه ليست رواية ، إنما بوح » وبكل جرأة ، أصرّح أنا بأن ثلاثية أحلام ليست رواية ، إنما بوح/ هذيان. حالة تقمّص شعوريةأ ولا شعورية لمالك حدّاد لتطفو به إلى الحقيقة وتغرق هي في الوهم. فهل تجد أحلام من يطفو بها في جلسة اكلينيكية أدبية؟
كانت أحلام هي أناه.
ولنفهم ، يجب أن نقرأ ما كتبه  مالك حدّاد عن أزهار ماي في كتابه : الشقاء في خطر ، هذا الكتاب الصّدمة .
ماي ، أزهار ماي ،  حوادث الثامن من ماي ، عيد الأم،  حيث يقول :
احترم الأزهار ولا تضعها في فوهة بندقيتك
ولا تكن مثل القبرة تغرس أغانيها في الثلم الذي لم تحفر. (القبرة = فرنسا)
ثمّ ..قل لي ، ما فعلته بأزهار ماي؟.
أزهار ماي كانت تحصد وتجمع من مزارع الأهالي لتُهدى للأمهات الفرنسيات في عيدهن الأحد الأخير من شهر ماي ، لكن الكاتب ، هل أهدى لأمه أزهار ماي؟  
إنه يرى الأزهار تجمع وتهدى لأمهات لم تنجبن الحقل ولا المحراث ولا السقي ، وهو الصبي لا يستطيع أن يهدي لأمه إلا قبلة على الخد ، وحتى هذه حرمها منها والده حين أبعده عنها لأجل التعلم بالمنفى أوليس القائل :
أبتاه ..
حرمت فتاك موسيقى الجسد
انظر إليه ، يرطن باللسان الأجنبي.
أليس القائل أيضا بأنه في المنفى ، يكون غريبا عن الجسد الذي حمله لأنه لا يكتب حين يكتب « يُمّا »؟هكذا بالعربية وبلهجته الجزائرية؟
نحن إذن أمام حالة  » جسد » عقدة أوديبية محبكة ، مرتبطة بالطفولة الأولى بالدم بالمنفى باللسان ، فأيّ محلّل نفسي يمكنه أن يحلها ؟ عقدة تحتاج أديبا يفكّ سحرها بسحر ، بلسان عربي مبين ، وكان يجب أن يكون أنثى.
أمامنا عقدة  نعيد إحياءها والكاتب الآن جثة  وقد كانها  وأوحى لنا ما أوحى ، يقول الكاتب :
أنا اسمي جثّة..
كنت أحيا
وكانت لي بنات
لكي يعود قدرا للحياة ، يجب أن تكون له البنات
أنثى واحدة تكفي ، وكانت أحلام
فأيّ جهد قد بذلته أحلام لتستعيد الجسد .
الذاكرة ؟ كانت هي ذاكرته
وكان يجب أن تكون الأم والعشيقة والأديبة وكانت كلّ الحالات.
إنها لأسطورة أن أرى في تحليلي أحلام مستغانمي وقد زوّدت بطاقات هائلة متعدّدة كجنيّة وحدها تملك قدرة استعادة الكاتب من جثته وفي خلال ذلك تتعرّض بدلالات سحرية لمتاعب نفسية وجسدية لتخل في حالة تلبّس / تقمّص ، ويمكنني استعارة عوارضه من حالة الوحي كما جاء في الأثر عن النبي الكريم ، « حمّى ، تعرّق ، هذيان ، » وهي  عوارض يفسّرها علماء النفس بعوارض الجنون والانفصام أو ما يعرف في الطب الشعبي  » خو لولاد ». ويوجد من علماء النفس من يجعل الوحي عارض من عوارض الجنون ، عافانا الله في ديننا .
خلاصة ، إن أحلام مستغانمي دخلت حقا حالة تقمص ، فهي ذاتها خالد بن طوبال في ذاكرة الجسد ، والجسد هنا ليس أبدا مفهوما ايروتيكيا ، هو الجسد بالمعنى النفسي  ، بدلالات فرويد ، وهذا كله لأجل منحة استشفائية للكاتب ، وإنه لعمري فداء تستحق عليه أحلام التقدير  ويمكنه أن يكون حجر تأسيس للرواية الاستشفائية ، وتكون أحلام أوّل المؤسسين.
وفي تقريري ، كإخصائية علم نفس ، أستطيع أن أدلي بأن حالة المرض العصبي أو الفصام ، قد حلّت . وعقدة أوديب قد انفكت .
متأخّرا جدا عن العلاج ، أعدنا الكاتب ، في رواية ، ورددناه إلى جسد أمه / أحلام .ألم يقل لها بلهجة قسمطينة : لمّيمه؟
              
                                  
هامش
*******
عزيزة : هي جارة للكاتب مالك حدّاد بقسنطينة
المحجرة ، جبّانة اليهود ، دروب الياسمين ، شاطئ 304 ، أحياء تحيط بالحي الذي سكنه الكاتب.