لغة العاصفة… حبيب مونسي

لغة العاصفة…
هممت أن أدير دفة السفينة إلى وجهة أخرى عائدا إلى بلدي… وكأنه بيدي الساعة أن أبطل ثورة الموج، وأن أتحكم في شدته.. أن أقول له كفى لقد غيرت رأيي، لن أعاندك، لن أصارعك.. أريد العودة إلى بلدي وأهلي .. لو فعلت وأدرت العجلة لضحك مني الموج، وقهقهت الريح.. ما زلت في غفلتي أظن أن الأمر ملك يميني.. ليس أمامي إذن سوى التفرج على زعقات العاصفة وهي تمطر ظهر السفينة بسيول عاتية من الماء المالح ورائحة البحر. وأن أترك المركبة تتقدم في الظلام الدامس، لا أعرف لها وجهة.. إنه الاستسلام التام..
عجيب أمر الإنسان ! قد يجد في لحظات الضعف والانكسار من الأفكار ما يجعله يتحمل المستحيل من أجل تبرير الموقف الذي هو فيه.. ربما هذا هو شعور من يقبل على الموت وهو يعلم أن لا خلاص له مهما فعل في نفسه.. إن كل خطوة تقربه من المقصله.. له أن يجعل من مشيته تلك مشية الشجاع الذي لا يهاب الموت، فيعطي لموتته رمز التضحية من أجل فكرة، أو من أجل الآخرين.. أن يجعل ذكرى إقباله على الموت مثالا.. و له أن يجعل منها صورة للذعر والخوف، صورة للصراخ والعويل الذي لا يقدم ولا يؤخر، لأن الموت في نهاية الممر. هل له من العقل والثبات ما يجعل الحركة الأولى مجرد تمثيل تغذيه الصور البطولية التي قرأ عنها. أم أن العقل يطير من عقاله أمام شبح الموت.. هذا الموج من حولي لا يترك لي فرصة الاختيار.. فإذا سلكت السبيل الأولى فمن ذا سيذكرني، ويذكر موقفي من الموت ؟ إنني هنا أكثر وحدة من الوحدة نفسها.. أكثر من الضياع.. إنني لا شيء. إن ما يعتريني الآن من فكر، لا أجد له من مبرر.. ولكنه شيء عجيب وكأن الذاكرة تستفرغ محتوياتها في سرعة متنامية. وكأنها تريد أن تقول كل شيء في اللحظات الباقيات.. إنها أشبه شيء بالنابض الذي ينفرط فيلتف حول نفسه في سرعة جنونية.
استسلمت لحركة المركبة، وأغمضت عيني إذ لم يعد الإبصار مجديا، خاصة وأن الملوحة أضحت تؤلم الحدقة.. وهنا حدث انقلاب آخر.. انقلاب في المشهد.. انقلاب في القيم والموازين. فالذي كنت أخاف منه، وأسعى إلى تحاشيه.. أبصره، فتأخذني أبعاده، صار يتخللني عبر السمع.. صارت الأصوات تحجِّم الأشياء، تلبسها أشكالا مختلفة، تعمل مخيلتي على تلوينها، وتحديد أشكالها.. أراها في عتمة الذات تهدر هديرا مضاعفا تضفي عليه حركة المركبة الجنونية هولا إلى هول.. كنت أقول لنفسي: إن الموت أهون وأنت تراه، منه وهو يأتيك مدلجا، محمولا على تخيل جامح، لا يعرف لكوابيسه أولا ولا آخر.
-الأمر مختلف جدا عما كنت ترى.. أليس كذلك ؟
قلت في شبه شرود:
-نعم.. وكأنني انتقلت من عالم إلى آخر..
ثم انتبهت فجأة إلى صوت الشيخ الضرير وهو يمسك بيدي. فصحت به:
-ما الذي جاء بك ؟ لماذا تركت أمن المقصورة ؟
ضحك الشيخ وقال:
-أي أمن يا بني ؟ هل ينجيني من الموت مجرد بقائي في المقصورة ؟ لا.. لا. أريد أن أشاهد العاصفة وهي تكتسب من عصفها حقيقة اسمها.. أريد أن أرى كيف يتشكل الخوف منها في نفسي ؟ أريد أن أرى صورة من صور الموت، وشكلا من أشكاله..
أمسكت به وقد مالت السفينة إلى جنبها الأيمن ميلا شديدا كاد يذهب بي وبالشيخ المجنون، وصرخت في وجهه:
-أنت ضرير لا تبصر شيئا.. عد من حيث أتيت.
هز العجوز رأسه وقال:
-ظننت أنك قد وعيت الدرس.. لست أنا الضرير بل أنت.. فيما ينفعك البصر وأستار الظلام الدامس تطوقك من كل ناحية، إنك إن أخرجت يدك لم تكد ترها.. ومن هنا مأتى هلعك وخوفك. أما أنا فلا أعول على البصر الآن لأنني جزء من العاصفة.. أنا وأنت والريح والمركبة والموت.. كلنا أجزاء من العاصفة. فلماذا تتمادى في الكذب على نفسك وتظن أنك قادر على أن تعزل نفسك عنها.. إنها قدر.. والقدر ليس من شأنك أنت.. لو حاولت أن تتوحد بها لما شعرت بالخوف.. اجعل من نفسك بعضا منها.. أنت الآن بعض الريح، وبعض الماء وبعض النار وبعض الطين الذي يشكِّل العاصفة.. إنك لن تشعر بالعداوة تجاهها، ولن تشعر هي بالغضب تجاهك.. وإن علمت منك فهمك ربما سكنت لتوها..
ابتسمت في الظلام ، ودفعت الشيخ أمامي إلى ساتر المقصورة، وأنا أشعر بجسده الهزيل يرتجف من شدة البرد، ثم ألقيت عليه بعض شراع انتزعته يد الريح قبل ساعة. ثم سمعته يتمتم:
-اعلم أنه لاشيء ينجينا مما نحن فيها سوى التعاطف مع العاصفة.. أن تكون معها لا ضدها.. أن تفهم عنها لغتها، لا أن تقابلها بالصمم والعمى.
كانت نبرته الهادئة تشعرني بشيء من اليقين في صدق حديثه، وكأن الأمر متوقف على تعاطفي مع العاصفة.. ولكن كيف أتعاطف معها ؟ كيف أكون جزءا منها، وتكون هي جزءا مني؟
أغمضت عيني، واستسلمت لحركة المركب القلق، وأرخيت عضلاتي، ثم استندت إلى السارية الوسطى، وشددت حبلا منها حول خاصرتي يشدني إليها.. حتى أكون أولا جزءا من المركب، ليتحول بدوره هو إلى جزء من العاصفة.. كانت الفكرة أول الأمر مثار سخرية في أعماقي، ولكنها تملكتني شيئا فشيئا، حتى غدا الاضطراب هدهدة يتجانس معها جسدي يمينا وشملا، ارتفاعا وانخفاضا. وإذا بشعور غامر يملأ صدري بما يشبه الفرحة الطفولية،وإذا بالمناظر المزعجة تتلاشى من خلدي، فاسحة المجال أمام رؤى بعيدة الغور، عميقة المعاني.. لقد حققت النقلة إلى عالم العاصفة فلم تعد الرياح الهوجاء مثار خوف في نفسي، بل أضحت أشبه شيء بموسيقى الكون تنبعث من حولي صاخبة رنانة، جهورية الصوت، تتخللها فترات صمت، وكأنها عزف عازف يستفرغ ما في رئتيه، ثم يعود بعد الشهيق الطويل إلى النفخ.. أمر عجيب حقا لا شيء فيها يخيف.. لا شيء فيها يرعب. بل حركة من حركات الكون كنت استعظمها خوفا من هلاك نفسي التافهة، وقد أضحيت أتلقاها الساعة وكأنها الذروة التي تبلغها الانفعالات الصاخبة قبل أن تذهب ثورتها بددا، ويعقبها السكون والهدوء.. لقد وجدت للسكون طعما آخر.. طعم لم أكن لأتصوره قبل هذه الحادثة. وكأنه لابد لي من معرفة الثورة وتذوق آثارها قبل أن أعرف طعم الهدوء.. إن الهدوء فاكهة لا يدرك مذاقها إلا من خلال مذاق الانفعال. فكل منهما شاهد على الآخر يعطيه من حقيقته ما يكمل به حقيقته الخاصة.. إن انحيازنا إلى أحدهما يعنى جهلنا بحقيقة الآخر.. إنه التطرف الذي يقيم الحياة على جانب واحد من العاطفة.. الجانب الذي تعودنا استسهاله.لأنه لا يثير فينا ردود أفعال قوية.. ربما كان طلب المغامرة عند البعض منا من هذا المنزع، يحاول بها الخروج من المستسهل المستملح إلى الشاذ المستصعب.
لم أشعر باستقرار المركب وانسيابه في ريح هينة، حتى شعرت بدفء أشعة الشمس على جسدي. وخيل إلي أنني نمت واقفا، وأن الزمن قد جرى ساعات طويلة قبل أن أنتبه إلى نفسي. وفتحت عينيي لأصادف ابتسامة الشيخ الضرير، وكأنه ينظر إلي في سخرية. ثم نظرت حولي إلى صفحة الماء وقد غدت أديما مسطحا، تتلاعب في سمائه نوارس بيض، ترتفع إلى عنان السماء قبل أن تنقض على الماء، تصطاد سمكه. ثم سمعت همس الشيخ أمامي يقول:
-ألا تشم ريح الأرض ؟