زحام الأنساق في رواية « أنا وحاييم » للحبيب السايح

الدكتورة آمنة بلعلى/ كلية الآداب واللغات -جامعة مولود معمري، تيزي وزو

 

تضعنا رواية « أنا وحاييم » أمام إشكالية قرائية، تُربك كثيرا عاداتنا القرائية، على الرغم من أنّ موضوع المُهمّش اليهودي، تمّ التطرق إليه من قِبل روائيين آخرين كرشيد بوجدرة وأمين الزاوي وحميد عبد القادر وغيرهم، الأمر الّذي يضعنا، ومن خلال هذه الإشكالية القرائية، أمام إحراج تصنيفي، تسهم فيه، من جهة، طبيعة هذه التّيمة، التي يمكن إدراجها في إطار ما يتداول من مفاهيم، كاستعادة الذاكرة المُضادة، أو إعادة كتابة التاريخ، والمسكوت عنه، وغيرها من المفاهيم التي ترتبط بالفكر ما بعد الحداثي، ومن جهة أخرى، يسهم فيه التردّد في تصنيفها ضمن نوع من الرّوايات التي انخرط أصحابها في مشروع عولمة الرواية، المرتبط بالثقافة المُعولمة التي توجّه اختيارات الروائيين نحو هذا الموضوع أو ذاك استجابة للقيم العالمية الجديدة.

فهل أقنعنا الحبيب السايح في هذه الرواية بأنّها قصة اليهودي حاييم الّذي وُلِد في الجزائر وتعلّم وكبر ومات فيها، بل ضحّى من أجلها مثلما ضحّى بقية الجزائريين؟ وهل كان اختياره الكتابة في هذا الموضوع، كما صرّح بذلك، نابعًا من قناعته « بأنّ اليهود الجزائريين شكّلوا جزءا لا يتجزأ من مكونات البلد البشرية والتاريخية والثقافية » ومن ثمّ تصبح الرواية مجرّد مُرافعة عن اليهود الذين عاشوا في الجزائر وخرجوا منها طوعًا أو كرهًا، والتي يمكن أن يعتبرها البعض جزءا من حقيقة عن كذبة كبيرة جدّا يُروّج لها اليوم وفي سياق مخصوص، ونكون بذلك قد صنّفنا الحبيب السايح ضمن أطروحة تمّ العزف على وترها كثيرا وخاصة بعد العشرية السوداء؟ أم أنّنا يمكن أن نعتبر قصة حاييم موضوعًا مضللا يدفعنا لقراءته كوسيط سردي تسرّبت من خلاله مجموعة من الأنساق المضمرة بوعي أو بغير وعي، وجعلتنا ننصت إلى الحكاية نفسها وهي تقول أشياء أخرى من خلال مواقف وأحداث أخرى لم نعرها اهتمامًا لفرط شغفنا بمصير اليهودي حاييم.

نقر بهذا الإحراج، وكان بإمكاننا الاستناد إلى ما صرّح به الحبيب السايح، فجعلنا نطمئن إلى أنّ الرواية تحكي قصة حاييم، الّذي يُقدم في الرواية باعتباره نموذجًا مثاليًا لفئة من اليهود الجزائريين الذين رفضوا الانخراط في المشروع الصهيوني، وفهموا المواطنة بعيدا عن أي تشنج ديني، أو تعصب طائفي، ويكون بذلك الحبيب السايح قد بيّن لنا، من خلال هذا النموذج، أنّ أي حديث عن الديمقراطية، أو العدالة، أو العيش في سلام، في ظل سلطة شرعية لا بدّ أن يمر من خلال قناعة حقيقية بوجود مُشترك دون اعتبار لأي معيار آخر لمفهوم المواطنة بعيدا عن أي تشارك إنساني، وهو ما يعكسه العنوان « أنا وحاييم » الّذي يحمل في صيغته سؤالا حول إمكانية تدبير عملية الانتقال إلى تحقيق هذا البُعد التشاركي، وتسعى الرواية للوصول إليه في آخر المطاف كدعوة إلى إحياء فكرة التعايش والتسامح التي كانت سائدة في المجتمع الجزائري طيلة قرون.

إنّ هذه الفكرة ذاتها، وهي تستند إلى البعد التداولي الّذي يتيحه العنوان، سوف تفرض علينا إعادة النظر في فهم وظيفة الكتابة الروائية ذاتها، والتساؤل عن مدى انخراطها في موضوعات الحوار الّذي يدور اليوم حول أسباب المآسي التي يعيشها العرب والمسلمون دون سواهم من شعوب العالم الأخرى، وهل بإمكان الروائي أن يسهم في اقتراح بعض مطالب تدبير الإصلاح والتحديث في مجتمعاتنا، من أجل تجاوز سرديات قاتلة كمفهوم الهُوية المنغلقة، الّذي يزداد انغلاقا كلما فكرنا فيه، ويزداد به تكريس هيمنة تقوم، من جهة، على تكريس أسطورة الوحدة الإثنية واللغوية والدينية والطائفية، في عالم يتحدّد فيه مصير شعب بأكمله بسوء تدبير التصالح مع عنصر من عناصر هذه الوحدة، ومن جهة أخرى، تقوم على رؤية لتدبير كيفية توزيع المكاسب والمناصب.

قد يعتقد من هذا الطرح أنّ الرواية مجرّد خطاب يتغيّ الإصلاح السّياسي. والحقيقة أنّ هذا الطرح ذاته هو ما يجعلنا نفهم الرواية على أنّها هي الجنس الأدبي الّذي يقوم على تمثيل نماذج قادرة على التصالح مع العالم بإصلاح ذاتها، ومن هنا، فإنّ ما يمنح للرواية أهميتها وقيمتها هو الرؤية التي توجّهها وتجعلها جزءا من تاريخ الأدب الإنساني، الّذي هو تاريخ « التخصيب المتبادل والمتواصل بين الأفكار خارج حدود الجدران والحدود المصطنعة بين الثقافاتّ » والرواية كحالة من حالات التخصيب هذا، تصطنع تمثيلات تفترض من خلالها وسائل لتدبير الاختلاف، ترتبط في تحوّلاتها المستمرة بما تفرزه المجتمعات من تغيّرات أيضا، سواء سياسية أو اجتماعية أو ثقافية، ولذلك كانت الرواية ولا تزال « إحدى أدوات المعرفة القائمة على حركية الفكر والنزوعات البشرية، والتحوّلات الاجتماعية في جوانبها الأخلاقية والاجتماعية » وهذه الحركية تتغلغل في الرواية، وتسم النص بموجّهات تفرض معايير تصنيفه وقراءته وتأويله، وتجعل القارئ يتجاوز مقاصد المؤلف الواعية، ليبصر بالأنساق المضمرة التي توجّه عملية الكتابة وتتسلّل بين طيات النص، فتفرض منطقا آخر للتصنيف والقراءة، قد يتناقض مع توجيه المؤلف، أو قد يسير جنبا إلى جنب معه. هناك إمكانيات متعدّدة تجعلنا ننصت إلى الحكاية نفسها وهي تقول أشياء أخرى أو حكايات فرعية لم نعرها اهتماما لفرط شغفنا بمصير شخصية ما أو تقنية ما، أو أي رهان يضعه الروائي في طريق القارئ، ما يعني أنّه يستوجب علينا أن ننظر إلى الخطاب باعتباره منطويا على « بعدين: حاضر في الفعل اللغوي يتجلى عبر جماليات، ومضمر يتخفى متحكما بالعلاقة بين منتج الخطاب والأفعال التعبيرية التي تكون عناصر ذلك الخطاب »

ورواية « أنا وحاييم » التي تحكي ظاهريًا إيقاع الصداقة بين مسلم ويهودي تطرح أكثر من تساؤل يرتبط بعضه، بسياق كتابة هذه الرواية، ونحن نعيش تحولا في علاقة العرب مع إسرائيل، وفي علاقتهم مع بعضهم بعضا، ليتجدّد الكلام عن الأقليات والإثنيات والثقافات القومية والطوائف، وغيرها من المكونات التي عدّ تغييبها عاملا من عوامل تغييب الوعي التاريخي بها، وعدّت كذلك عاملا فيما وصلت إليه البلاد العربية من تشرذم، وصراعات تغذّيها أقانيم خطابية ثلاثة هي مقولات: الإرهاب والعولمة والحوار، أما الخطاب الأوّل فيقوم على الإدانة، والثاني على بسط الهيمنة بالوسائل الناعمة وأما الثالث؛ فينخرط في خطاب الدعوة إلى التعايش الإنساني، ولذلك نعتبر مثلما ذهب إلى ذلك الحبيب السايح أنّ هذه الرواية تندرج في الشق الثالث من هذه الثلاثية.
ولتحقيق التعايش ينبغي أن يتم تقويض كلّ المسبّبات التي تعمل دون تحقيقه، لذلك سيضطر الروائي إلى إعادة تحيين مجموعة من القيم تماشيا مع فكرة التعايش ذاتها، وسيقوم بعمليات إزاحة واستبدالات دلالية تستهدف محاورا خفيا هو القارئ.

ليست عملية التحيين بالضرورة عملية واعية، كما أنّ الروائي قد يتعمّد عدم الالتزام بموقف ما، ولكن بنية الرواية ذاتها واختيار الفضاء الزماني والمكاني الّذي تدور فيه الأحداث، يفرض موقفا معيّنا وهو يبحث عن ملامح هذه الهوية الثقافية التي يعبر عنها العنوان « أنا وحاييم » في وسط مجتمع يسوده الظلم والعنصرية في ظل الاحتلال الفرنسي للجزائر وفي فترة ثورة التحرير إلى ما بعد الاستقلال. ومن ثمّ، فإنّ الموضوع الأساس الّذي تصرح به الرواية يدفع الروائي، لكي يحسن تدبير صياغة منطق هذه الهوية لتكون مقنعة، أن يدير ذلك بما يقتضيه مفهوم التعايش ذاته، ويفعّل له مجموعة من الآليات، ويصوغ مواقف، ويتخلى عن قيم لحساب قيم جديدة، ليجعل القارئ يستوعب مختلف أوجه التدبير الهوياتي الّذي أراده، وتكون كلّ النقاشات وكلّ القضايا ممكنة، وكلّ الأسئلة محتملة، يمكن الكشف عنها في ملامح المشهد السردي في شكل تسريبات نسقية مضمرة تشي بتواطؤ مع الحكاية الأساس التي أعلن عنها في العنوان، وتمّ تمريرها من خلال سرد قصة إنسانية لعلاقة صداقة بين مسلم ويهودي منذ أن كانا طفلين، ودبّر لهما كلّ أساليب العيش معًا والدراسة معًا في وطن لم يكن حراً، فسعيا إلى المساهمة في رفع الظلم عنه، الأمر الّذي عمل على ترسيخ فعل الهوية بينهما من خلال تعزيز فعل التشارك في كلّ شيء، وتقلصت مسافة الاختلاف الديني بينهما حتى أصبح الإسلام واليهودية ممارستين اجتماعيتين متشابهتين في معظم أساليبها الرمزية، وهو الأمر الّذي جعله قادرا على تأسيس هذه الهوية الثقافية المتشابهة التي جعلت من أرسلان وحاييم واحدا، ويتجلى ذلك من التكرار المفرط في عبارة أنا وحاييم، ومثيلاتها من قبيل، مثل حاييم، كما حاييم، مع حاييم، فاشتركا في الشعور وفي الفعل وفي التفكير.

1- استعادة نسق المهمّش:

رواية أنا وحاييم، من خلال عنوانها، وطريقة رسم الحروف العربية للعنوان واسم الروائي وجنس النص، والصورة المثبتة في الغلاف، تقدم نفسها باعتبارها نسقا يفرض على القارئ من البداية التفكير في الحقيقة الثقافية التي تتوارى خلفه، وتفرض عليه الهيئة الخارجية التي ظهرت به موقفا قبليا هو ما تمّ التصريح به في الغلاف الخلفي للرواية وما أكده المؤلف ذاته في حوار معه، من أنّ الرواية تشتغل على إعادة الاعتبار لصورة اليهودي في المخيال الثقافي الجزائري، في إطار إشكالية الهوية الأبدية في الثقافة الجزائرية. وهو الأمر الّذي يدعو القارئ إلى استجلاء العلاقة بين النص والثقافة وأيضا التاريخ، وينظر إلى الرواية باعتبارها صياغة لعالم جديد باستعادة واقع تاريخي لتدبير عملية تمثيل البعد التّشاركي الّذي عبّر عنه المؤلف بالتعايش وهو ما يثير الإمكانية التأويلية الأولى التي تجعلنا نثير تموقعها في ظل خطابات الثقافة العالمية الحالية.
تستدعي هذه الإمكانية إذن الإشارة إلى الآليات التي تجعل الرؤية في هذه الرواية تنسجم مع فكرة التعايش الجديدة، وتقوم بالدرجة الأولى بتقويض سردية تاريخية يعلن منذ البداية أنّها تتناقض مع فكرة التعايش، وهي « اليهودي عدوّ » فتكون عودة اليهودي المهمّش وبالصيغة التي ورد بها عرضه في غلاف الرواية، إعلانا عن تواري السردية التاريخية الكبرى التي تشكلت في المخيال الجمعي للجزائريين الذين لا يذكرون لفظة يهودي إلاّ متعوذين بالله منه.

كان لا بدّ إذن من العنوان، وصورة الغلاف التي تجمع طفلين يظهر على أحدهما رمز الهوية اليهودية، ويبدو الآخر مجرّدا من كلّ رمز، وهما في حالة انسجام تام، كان لابدّ أن يكسر طوقا من التمثيلات الرمزية في الثقافة الجزائرية وينقلنا من ثقل نسق العداء، إلى صياغة سـردية أخرى هي إمكانية العيش معا في سلام، وهي من القيم الجديدة التي تقوم عليها ثقافة العولمة، والتي تقضي ظاهريا بضرورة تجاوز التمثلات العنصرية التي تعرّض لها اليهود في العالم، بتفكيك قيم المؤسسة التي كرّستها، اجتماعية كانت أم سياسية، وكانت تسعى من وراء ذلك إلى بناء شرعية زائفة، تدعو أحيانا إلى تطهير الهوية الجزائرية من فئة تواطأت مع المستعمر لتعميق مآسي الجزائريين، وأحيانا أخرى تتبنّى شعار المشروع العربي القومي، بتحرير فلسطين من اليهود، فهل إسقاط السردية التاريخية التي صاغتها بنية تسلطية إقصائية لتمثيل اليهودي في المخيال الجزائري، كان من أجل الحكاية، فحسب، أم أنّه ينسجم مع رؤية ديمقراطية جديدة تتبناها الرواية قبل المؤسّسة في الدّعوة إلى إعادة بعث المشروع التحديثي في الجزائر الّذي عبّر الحبيب السايح عن انهياره في رواية « زمن النمرود » وتقتضي هذه الرؤية إستراتيجية في تفكيك الأنـسـاق المتحكّمة فـي الـثـقـافـة الـمـهـيـمـنـة، وتـعـريـة تـحـيّـزاتـهـا الإيـديـولـوجـيـة. ومن ثمّ تصبح الرواية متموضعة ضمن الـسّـرديـات الـبـديـلـة فـي الـحـقـل الـثـقـافـي الـعـام كإسـتـراتـيـجـيـة مـضـادّة لـكـلّ صـور الـهـيـمـنـة الـثـقـافـيـة والـرمـزيـة الكامنة خلف الخطابات والممارسات الدالة في المجتمع، وهذا التموضع الثقافي هو ما يحدّد بنيتها النصية بكونها نقدية وتفكيكية
تبدو الإجابة بالإيجاب، في كلتا الحالتين، ما دامت الرواية اليوم تقدّم نفسها باعتبارها أداة من أدوات الثقافة السائلة بمفهوم زيغموند باومان، وهي نفسها ثقافة العولمة، وليس الأمر بغريب ما دامت الرواية في الغرب قد « ارتبطت في تاريخها بالوعي القومي وتشكّل ما يسمى الضمير الجمعي للأمة وبخاصة إبان نشوء مفهوم الأمة nation وبزوغ عصر الدولة القومية في القرن التاسع عشر، وفي الوقت الّذي كانت الرواية الناطقة بالانجليزية توصف بالرواية الإمبراطورية تنسيبا إلى فضاء الثقافة الإمبراطورية البريطانية، فقد بتنا نرى اليوم اتجاها روائيا معاكسا يميل إلى عولمة الأفكار والثقافات بدلا من مركزتها في شكل استقطاب أحادي اللون والنكهة الثقافية » وشبيه به ما شهدناه في الجزائر حيث ارتبطت الرواية المكتوبة باللّغة العربية في سبعينيات القرن الماضي بالواقعية الاشتراكية وكانت لها أدبياتها التي جعلتها تنخرط في حركية الفعل السياسي التحديثي والتنويري آنذاك.

يهشّم الحبيب السايح « دوغما » مركزيا في الثقافة الجزائرية، شأنه في ذلك شأن مجموعة من الروائيين الذين انخرطوا في مطلع الألفية خاصة، في مسار استعادة ذاكرة مهمشة، تتكوّن من فئات اجتماعية حكم عليها التاريخ بالموالاة للمستعمر، وساهمت في إدامة الغبن الجزائري، كفئة اليهود الذين سارعوا إلى التجنّس، والحركى، والإقطاعيين الذين نصبتهم فرنسا آليات لفرض هيمنتها على الجزائريين، ثمّ وجدوا أنفسهم بعد الاستقلال يقبعون في الهامش، تحت وطأة سلطة ساهمت في إنتاج هيمنة جديدة قائمة على الإقصاء، وتركت وراءها مجموعة من الاستفهامات، التي تقوم على التشكيك في أصالة تاريخ الجزائر، وتاريخ الثورة على وجه الخصوص، وقد حفزت هذه الاستفهامات الروائيين الجزائريين بعد العشرية السوداء خاصة، فانتقلوا من مرحلة تخيل التاريخ الّذي شهدناه في رواية السبعينات إلى تأويل التاريخ وإعادة قراءته من أجل اكتشاف التاريخ غير المروي والمقصي، فبدأنا نقرأ تراجعات ومراجعات لصالح تصورات جديدة تقوم على تقويض ما اعتقد أنّه هيمنة السّلط، وشرعية القوّة. واتخذ كلّ روائي سبيله في التقويض عجبا، وبحسب الرؤية التي تلزمه.
ونحن نتابع « أنا » السارد وهو شخصية أرسلان ابن القائد الإقطاعي المختار بعناية فائقة من النخبة المثقفة المتخصّص في الفلسفة والمنحاز إلى الفكر اليساري، (وهي الخلطة العجيبة التي صنعها الحبيب السايح) وجعله ينخرط في الثورة التي هي بالنسبة إليه حرب ضدّ الظلم الّذي يمارسه المعمرون على الأهالي من الشعب الجزائري، يبدو في الرواية يمتلك سلطة الخطاب، والحكي، منذ أن أعلن تبعية اليهودي له، في ترتيب الجملة الإخبارية التي تصنع عنوان الرواية، ويتبنّى من البداية التي عاد بها إلى الذاكرة في تدبيره لعملية نقل حاييم اليهودي من مرتبة المهمّش، من خلال تواطؤ أقامه بينه وبين فئة الإقطاعية من حيث النفاذ إلى نفس الحقوق التي يمتاز بها المعمرون، كوسطاء للسياسة الكولونيالية، وأهمها الرفاه المالي والحق في التعليم، وغيرها من الامتيازات على الرغم من محدوديتها.

كان أرسلان وهو يسرد قصة صداقته مع حاييم، ومن خلال موقفهما من معاملة الأهالي، إنّما يعيد أيضا الاعتبار إلى فئة « القياد » التي صنعت لهم الرواية الجزائرية، سواء المكتوبة بالعربية أو الفرنسية، من قبل نموذج الموالي للمستعمر، فينقله من هذه الوضعية الهامشية، ويجعله نموذجا وطنيا، ساهم في مساعدة الأهالي، بل رفعه إلى مرتبة الولي بالنهاية التي خصّه بها وهي وفاته في مكة، ويختار ابن القايد الّذي رام من خلاله وفي علاقته مع حاييم الإسهام في المشروع البديل القائم على تذويب القيم السابقة ليتيح إمكانية إقامة مفهوم معيّن للمواطنة لديهما، فعبّر عن ردود أفعالهما مما يلاقيه الأهالي من معاملة سيئة من الكولون، وكانت ردود الفعل تلك تأتي في شكل تقارير، في حوارات الصديقين تنبئ بوجود وعي جديد، وفكرة جديدة هي بداية تشكل الوعي للتحرّر من الظلم إلى أن تحول إلى سلوك من خلال انخراط أرسلان في خلية للتحضير للثورة ثمّ الالتحاق بالجبل، ومساهمة حاييم في تزويد المجاهدين بالأدوية، وهكذا ينتقل السائح بحاييم وأرسلان معا، من الإقصاء إلى عملية دمج تبدو في الرواية كإستراتيجية تقوم على الاحتواء، بتجاوز القومية المغلقة، فبدت لنا العلاقة بين العائلتين اليهودية والمسلمة علاقة مثالية متطهرة من كلّ ما يوحي بالاختلاف، فليس هناك اختلافات ولا صراع، هناك تشابه في المأكل والمشرب، والعادات ولذلك بدا حاييم من خلال أقوال أرسلان وحواراته معه، ومواقفه، نموذجا يهوديا متماثلا مع أرسلان، فقواعدهما السلوكية متشابهة إلى حد التطابق، « حيث لم يصدر (كما قال ارسلان) من حاييم تجاهي ما أشعرني بأنّه تضايق مني لكلمة أو إيماءة أو سلوك، في مثل هذه الحالات كان مرآتي وبارومترييّ »
سعى الروائي، لكي يصبغ على حاييم كلّ معاني المثالية إلى الحد الّذي لم نر فيه صدور أي خطأ منه، حتى في المواقف الحرجة كمحاولة قتله أو حرق صيدليته، بل لم نلمس أي تناقض يذكر لا في كلامه، ولا في سلوكه، فهو إنسان تشرّب الحكمة من صغره، ولم نشاهد له نزوات عاطفية، مريبة، يدلّ عليه قول أرسلان: « أجدك كما ربيّ أرثوذوكسيا زاهدا بلا نار في قلبه » كما أنّه لم يخرج عن التزاماته الدينية، ولا مواقف تتناقض مع فلسفة اليهود في الحياة، ومن هنا يتأكد لدينا الاحتمال الّذي يؤكد هذه الرؤية التي تسمح لنا اعتبار الرواية تصحيحا لخطأ حصل في تصور اليهودي أو على الأقل نموذج معين من اليهود هو اليهودي الّذي يحب الجزائر والّذي لا علاقة له بالصهيونية العالمية ولا بدولة إسرائيل، ويدلّ عليه رفضه فكرة الهجرة إلى فلسطين، وتضحيته بحبه، وكاد أن يضحي بنفسه من أجل الجزائر.

غير أنّه لو تمّ تبرير هذا التوصيف، لكنّا اختزلنا الرواية إلى حكاية اليهودي حاييم وإلى هدف واحد هو إعادة الاعتبار لليهود، ومن خلاله فئة الإقطاع، وكذا الشيوعيين وقد نعزّز هذا المنحى بأن نقول بأنّ هدف الروائي هو أنّنا كنا كمسلمين ومع اختلاف توجهاتنا السياسية نعيش مع اليهود في سلام، ومن ثمّ فهو يذكرنا بنموذج اليهودي الّذي عاش في كنف الحضارة الإسلامية، وكان عنصرا فاعلا منها وبالتالي يمكن النظر إلى الرواية على أنّها مرافعة ومحاججة بامتياز لصالح يهود الجزائر من خلال نموذج مثالي هو حاييم الّذي قد يكون نموذجا افتراضيا، ما لم يثبت بالوثائق التاريخية أنّ بعض يهود الجزائر لم تكن لهم علاقة بالصهيونية ولا بدولة إسرائيل. فنكون بذلك قد أكدنا قناعة الروائي حين قال أنّ روايته حملت « من بين ما حملته، شهادة لتخليد ذلك التعايش الّذي ظلّ لمدة قرون قائما بين الجزائريين، مسلمين ويهودا »
فهل يكفي هذا لنخلع رداء التأويل ونغض الطرف عن الوجه الآخر الّذي بصرنا به من شخصية حاييم، ونصرف النظر عن شخصية أرسلان فينسينا وظيفته كسارد كونه شخصية أساسية لولاها لما تعرفنا على حاييم ولا تعرفنا على طبيعة ذلك التعايش الاجتماعي والثقافي بين اليهود والمسلمين، وهو ابن القائد الّذي يمثل فئة الإقطاعيين وكان أيضا بحاجة إلى شهادة تبرئة، طالما أنّ المرجعية التاريخية رسخت في المخيال الجزائري صورة الوسيط العميل للمستعمر، وأنكرت دورهم في المساهمة في الثورة، ومن ثمّة ألا تكون مسألة انخراط كلّ من أرسلان ابن القايد وحاييم اليهودي في الثورة مجرّد صناعة لتاريخ مواز يقوم على تحالف بين الإقطاع والشيوعيين وبعض اليهود، لتمرير رؤية أخرى متوارية في لغة أرسلان وفي حواراته، وفي موقفه من جيش التحرير الوطني وجبهته، وفي موقفه من خروج الكولون، ومن النظام الّذي تقلد الحكم بعد الاستقلال ممثلا في مسؤول الحزب، وهو ما يجعلنا نتساءل عن المضمرات النسقية التي تتوارى خلف هذه المواقف وهي غالبا ما تكون أنساقا تاريخية، تفرض نفسها وتتسرّب وتسري على غير هدى الكاتب ومن دون وعي منه، حتى وإن أراد عكسها.

2- سريان نسق الذمية:

سيكون سهلا اكتشاف أن تكون تيمة اليهودي مجرّد خطاب تضليلي يبطّن نسقا مضمرا يضمحل فيه الدور المثالي الذّي بصرنا به ونحن نتتبع حكاية أرسلان مع حاييم وذلك التلازم العجيب بينهما. وفي الوقت الّذي نشعر فيه أنّ الروائي يمسك بزمام الأمور فيهشّم صورة اليهودي في المخيال الجزائري، يتسرّب من خلال إستراتيجية الدمج والاحتواء تلك، نسق آخر مقاوم، حيث يبدو لنا حاييم النموذج المثالي كما أسلفنا الذكر، بالنسبة لأرسلان مثل ظله مجرّد تابع، من بداية العنوان، حيث عمد السائح إلى كسر قانون تعاملي في استعمال الجملة العربية يفترض تقديم الآخر على الأنا احتراما له، فكان حريا أن يتصدّر النموذج المثال بداية الجملة، فيقول حاييم وأنا ليكون تقديمه دالا على المكانة التي أرادها له، ويتكفل السارد بتحيينها، ولعل في تكرار هذه الجملة في كلّ المواقف، والأزمنة والأمكنة التي جمعت الصديقين ما يدل على أن نسقا مضمرا يوجّه الكاتب إلى هذا الاختيار وهذا الإصرار يتعلق بسريان نسق مركز/هامش في نص الرواية تجاوبا لا واعيا مع مرجعية كرّست هذه العلاقة في التاريخ وفي الحضارة الإسلامية حيث لم يكن اليهود سوى أقلية تابعة، سمّيت أهل ذمّة. ولعل هذا الوضع التاريخي وإن ارتبط بمرحلة معينة من تاريخ الحضارة الإسلامية، فإنّه بقي يشتغل باعتباره نسقا متأصلا في المخيال الديني والسياسي والاجتماعي الإسلامي تغذّيه رؤية متمركزة في لا وعي كلّ مسلم، باعتباره ذميا، وتقوم باستعادة موضوع المقصي المحكوم عليه بالتيه، والنفي، والموت في محتشدات هتلر.

وقد اتخذت الذمية وضعا عنصريا مع الدولة العثمانية، مثلما ورد في قول حاييم مبررا قبول التجنيس لدى يهود الجزائر، في قوله: « تعرف؟ جادلت والدي في أمر تجنّسه، فكان رده أنّه فعل ذلك لأنّ العثمانيين، هنا، كانوا يهينون أجدادنا، باعتبارهم ذمييّن لهم عليهم من حق الحياة نفسه. وكانوا يفرضون عليهم الجزية. ويلزمونهم بلبس أثواب ذات ألوان صفراء. ثمّ خلص إلى أنّه يكفينا مع النصارى أن نحافظ على ديننا ولغتنا، كما ينادي بذلك رجال الدين المسلمون في البلد أيضا »

إنّ تسريب النص هذا النسق، حتى وإن لم يكن في وعي الروائي، يتجلى من خلال تولي أرسلان حكاية قصة حاييم، في حين بدا صوته السردي خافتا، ولم تمنح له إمكانية كتابة قصته وتاريخه من منظوره هو، إذا اعتبرنا أنّ حكاية حاييم هي حكاية نموذجية لتاريخ اليهود؛ فأرسلان هو من يملك القوة الثقافية، لأنّه هو من يملك سلطة الخطاب، وسرد حكاية اليهودي، وتتمظهر تلك السلطة من خلال ردود أفعاله التي كانت كلها، قولا وعملا، أفعال كلام إثباتية لما يقوله أو يفعله أرسلان، مع اختلاف بسيط في القناعة الدينية، وعندما استرد فعل السرد كان ذلك من خلال رسالته الأخيرة إلى أرسلان، التي تؤكد تحقيق الوعد بالعهد الّذي بينهما بأن أوصى له بجزء من أملاكه والجزء الآخر إلى الهلال الأحمر والبيعة اليهودية، ولعل هيمنة أرسلان وامتلاكه سلطة الخطاب على طول الرواية، باعتباره هو من يتولى سلطة السرد وتنسيق الخطاب، ساهم في تفعيل نسق الذميّة الّذي يعشعش في المخيال الإسلامي الجمعي عن اليهودي. فجعلنا نحس ونحن نقرأ الصفحات التي يتكلم فيها حاييم، وقد سردها أرسلان كسارد عليم بما كان يجيش في صدره عندما كتبها، يتضح بذلك التمزق في الهوية وتلك الوضعية التي أجبرته على التبعية، فيقول مخاطبا والده: « مع أنّك كنت لا تفتأ توصيني بألاّ ننسى بأنا أصحاب كتاب مقدّس منه نستلهم سر كلّ كتابة، وبأنّه لا يجدر بمن له كتابه ألا يترك أثرا مخطوطا »
وعلى الرغم ما يوحي به حضور حاييم وصداقته مع أرسلان من محاولة تذليل التعارض القيمي الّذي يحمله نسق مسلم/ذمّي، إلاّ أنّ الهيئة التي ورد بها تلخّص كلّ مقومات الذميّة، ليس في إعطاء عهد ضمني يؤمّن حاييم على عرضه وماله ودينه، فحسب، فقد دافع أرسلان عنه عندما أريد قتله، ولما أُحرقت صيدليته، وظل طول الرواية في ذمّة أرسلان، يتبع شروط الذميّة حيث لم يروّج للدين اليهودي، ولم يتجاهر بما هو مباح عندهم كشرب الخمر، بل تولىّ أرسلان بدله مهمّة المجاهرة باحتسائها في كلّ لقاء مع حاييم ويمكن اعتبار الوصية التي أوصى فيها بجزء من أملاكه لأرسلان بمثابة الجزية التي يقدمها اليهودي.

لقد رسم لنا السايح دورا لليهودي مشيّدا ثقافيا في فضاء من التهميش، فأبقاه وحيدا ومات وحيدا بالسرطان داخل النسيان والصمت، ولذلك، بدا البيت المهجور الصامت الّذي استهلّ به الرواية هو نفسه القبر الّذي انتهت إليه حياته، لقد حصره بين بيت وقبر، ولم يمكّنه من امتلاك وطن، لا بالإبقاء على انتمائه لوالده، ولا ترك وراءه وريثا يضمن له ذلك الامتلاك، ولعل انتهاء حكايته بالموت، تستجيب لانتهاء الدور الّذي أنيط به، وكأنّه جاء فقط من أجل تحسين صورة اليهودي، للإيهام بالوطنية والتاريخية، وبانتهاء هذه الوظيفة، انتهت حياته، ولذلك بدت الحياة عند حاييم وبهذا الدور الّذي مارسه مجرّد حياة لا معنى لها ولذلك لم يستطع الاستمرار في الحياة فمات بالسرطان، والسائح هنا ومن خلال هذا النسق المضمر الّذي يتسرّب إلينا من لا وعيه كأنّه يضع مفهوم التعايش مع اليهود والتاريخ الّذي صنعه لليهودي بين احتمالين « إما أنّها مجرّد أوهام وتخيّلات يمتنع تحقيقها وإما حياة لا يمكن احتمالها والتمتّع بها »
ولذلك فإنّ المعنى الّذي يرسخ في الذهن، من حياة حاييم، يرتبط بتهشيم الجانب السلبي الّذي تؤديه القومية سواء في بعدها الديني أو الإثني، ولذلك قام الروائي بنفي ما يتعارض مع مفهوم الوطنية لدى حاييم، فجرّد أرسلان من كلّ السّمات الدالّة على البعد الديني اعتقادا وسلوكا، تأكيدا لفكرة التّسامح تجاه التنوع الثقافي، وهو ما يفسر تركيزه على الجانب الاجتماعي من الدين حيث سعى أرسلان المسلم إلى إحياء مجموعة من التمثلّات الاجتماعية والثقافية للدين التي يشترك فيها الإسلام واليهودية، كبعض العادات والتقاليد والمأكل والمشرب، وهي أداءات ثقافية اجتماعية مفرغة من رمزيتها الدينية بخلاف حاييم الّذي بدا أقرب إلى السردية المتمركزة حول الدين، فجعلنا نشعر كأنّ التديّن أمر مقضي بالنسبة لليهودي وليس فكرة يتبنّاها الفرد ويمكن يتحوّل عنها، فحين قال حاييم، « أننا مخلوقون بإرادة وليس بصدفة » فإنّ الخيار الّذي تعكسه هذه المقولة هو أنّه لا بدّ بقبول حكم الله وما يقدره، إيمانا بفكرة الإرجاء التي يعتبر الإيمان بها جزءا من التديّن لدى اليهود، ومن ثمّ فالحدود التي تفصل بين أرسلان وحاييم مرسومة بوضوح وهو الاختلاف الّذي يتجاوز التشابه الشكلي بينهما.

إنّ فكرة التعايش التي سعى الروائي إلى تحقيقها، من خلال حكاية متخيّلة، بدت في هذه الرواية كأنّها طقس تطهيري جمع، أرسلان، وهو أنا المتكلم، بحاييم، ليصبح نحن، فعلا من أفعال حماية الذات، يهدف إلى تطهير صورة فئتين أقليتين من المجتمع الجزائري في عهد الاحتلال، من كلّ شيء يوحي بالاختلاف أو الصراع، كتجسيد رغبة في التماثل، اصطنعها الروائي لاجتناب ضرورة النظر العميق في الاختلاف بينهما ولذلك لم نلاحظ نقاشات فكرية، في أي موضوع إلاّ ما جاء عرضا، كقضية الإيمان بالله، بل إنّ تخصص الفلسفة الّذي اختاره أرسلان لم يتمّ تسريده في الرواية، بالشكل الكافي، وتمّ إسقاطه لصالح فكرة التعايش التي بدت، مثلما أسلفنا، أنّها فعل تطهّر انتقلت عدواها إلى الروائي، حين عكف على التخلّص من سردية المهمّش، فلاحظنا كيف تمّ تحويل الرغبة في تهشيم هذه السردية حافزا لجعل حاييم متشابها مع ارسلان، وهو ما يمثل استعارة، سرعان ما تذكّرنا بالأصل الّذي بني عليه وهو نسق الذمية، فيقود الحلم بالتعايش والتشابه، وتحقيقه على مسار الحكي، إلى استحضار النسق التاريخي، مسلم/ذمي/ ما يعني أنّ الرواية وهي تقدم نفسها بأنّها دعوة إلى تعايش مفترض، تشكك في أن يكون سؤال التعايش ذاته سؤالا ملحاّ من أسئلة الثقافة الجزائرية، بل لا يطرح، مثلما يطرح في بلاد عربية أخرى. ولعله من هذا الجانب، بدت الرواية فضاء لزحام الأنساق، يحتمي أحدها بالآخر من أجل أن يقوض نسقا آخر، فافتراض التعايش يقتضي بالضرورة تمرير النسق الإيديولوجي حتى وإن بدا بأنّ فكرة التعايش ذاتها بالصيغة التي عرضنا إليها تتعارض مع الايدولوجيا، غير أنّ تعزيز الرؤية الذمّية التي تظهر من خلال تقاطب قائم ظاهريا على علاقة صداقة، تتخلله علاقة قوة، يتخذ فيها من الصداقة آلية تطويع لتحقيق مشروع قبول التشابه والتعايش.

3- تفكيك أسطرة الثورة

لم يكن بإمكان الروائي تثبيت نسق التعايش ولا صناعة تاريخ مواز، يضم ابن القايد واليهودي، دون إعادة تقييم للتاريخ الرسمي، وهو حين جعل الرواية تدور حول هذين النموذجين، وربطهما بثورة التحرير، إنّما كان يوجّه نقدا لرؤية معينة، ويقرأ التاريخ الرسمي وهو التاريخ العام، من خلال هذا التاريخ الّذي صنعه، وهو بذلك سيزيح مركزية أساسية في تاريخ ثورة التحرير ذاتها، سواء من خلال الاتجاه نحو هذه الفئة المهمّشة التي تستدعى في الذاكرة باعتبارها عميلا للمستعمر، أو من خلال تجريد تاريخ الثورة ذاته من أدبياته، ومن الطابع الديني الّذي ارتبطت به الثورة في عقول الجزائريين، ومن ثمّ، ما كان لمشروع رفع التهميش عن هذه الفئة ليتم في الرواية لولا نزع المركزية والأسطرة عن التاريخ الثوري، باعتباره خاصاّ بالجزائريين المسلمين، وحسب، ولذلك تمّ التغافل عن رموز الثورة التحريرية المعروفين، إلاّ بالإشارة إلى بعض أعضاء الحزب الشيوعي كصادق هجاس، وحسيبة التي أقحمها معه، للإيهام بالتاريخية الجديد، ثمّ استعار من الثورة للتخطيط لرفع الظلم عن الأهالي، بمحاربة المستعمر والصعود إلى الجبل والمساهمة من حاييم بالإعانة الطبية، وهي من مستلزمات الفعل الثوري، وهو يعيد البناء بمحاكاة تاريخ الثورة، غير أنّه، يقوم بعملية عزل أدبيات الثورة، وإفراغها من فواعلها الآخرين، ومن خطابها، ومن طقوسيتها ومن الموقف المتداول منها ومن الاستقلال. بعد أن هيأ لها راويا متماثلا حكائيا، وتفعيل النسق الأيديولوجي لديه وهو النسق الشيوعي الجزائري الّذي يذكرنا بانفصال الشيوعيين الجزائريين عن الحزب الشيوعي الفرنسي وانخراط بعض أعضائه في الثورة، وأصبحوا جزءا من جبهة التحرير، يؤمنون بمبادئها ويسيرون وفق أدبياتها، لكن أرسلان الّذي اختاره الروائي، لم يأت من أجل إعادة قراءة التاريخ الثوري فحسب، ولكن أتى ليمثّل مسكوتا عنه من هذا التاريخ، الّذي كان له ممثلوه، ومنتجو خطاباته، فيصبح للتاريخ الثوري الرسمي عندئذ ذاكرة مضادة، تعترض التاريخ ولا تكتفي فقط بتسجيل وقائعه، بل ترفض النظر إلى الماضي باعتباره حقيقة
يقدم لنا السارد، تاريخا آخر ومن منظور مختلف، ولذلك لاحظنا تواري خطاب ثورة التحرير، وحلول أدبيات أخرى ومعجم آخر محله؛ فالجبهة أصبحت فرقة ومنظمة والثورة حرب تحرير والمجاهد مقاتلا والجهاد قتالا والاستشهاد وفاة في أغلب ما ذكر ما عدا الشهيد علي) والاستقلال سِلمًا أو هو في أحسن الأحوال « نظام منسجم خال من الاستغلال والميز، يتعايش فيه الأهالي مع غيرهم » « إنهاء النظام القائم على المستعمِر والمستعمَر » من أجل العدالة، على الرغم من تردّد كلمة الاستقلال ثماني مرات، وخصّص لها مشاهد احتفائية، تبتعد عن طقوس التقديس الّذي يربطها بالدين، ويبدو هذا الأمر متوافقا مع طبيعة المشاركين في الثورة التي لم تكن حكرا على المسلمين، ولذلك نجد الروائي قام بإبعاد المصطلحات الدينية، واستبدل بها أخرى، هي مصطلحات محايدة، أقرب إلى الفكر اليساري، الّذي يركز على البعد الاجتماعي للثورة، وتكرّرت هذه المصطلحات على مسار الرواية مثل السِلم، الحرب، الظلم العدالة، الاستغلال وغيرها، وانعكس ذلك على الموقف من الاستقلال الّذي كان إقرارا للسلام بين الجزائريين والفرنسيين، الأمر الّذي أدّى إلى إخراج ثورة التحرير والاستقلال من السّردية الكبرى التي صاغت دال الثورة والاستقلال ومدلولهما، فيما يشبه الانقلاب على أدبيات التاريخ الثوري لجبهة التحرير المرتبط بأخلاقيات المعجم الديني، ليتحول إلى دال محايد، كرمز لمشاركة الجميع، وتماشيا مع التاريخ الّذي شيّده لحاييم الّذي لا تاريخ له.

لقد تمّ ترحيل أدبيات ثورة التحرير، عن جبهة التحرير التي صنعت نسقا دينيا وسردية كبرى، وكان أرسلان المشبع بالفكر اليساري جسرا بين إيديولوجيتين أظهرت تحالفا بين قوة الإقطاع واليسار واليهود، فقدم إعداما مجازيا لجبهة التحرير من خلال اختزالها في حروف ثلاثة (ج، ت، و) وكأنّه يفرغها من طابعها الديني الرمزي الّذي تأسّست عليه سرديتها وصاغت أدبياتها منه، فقدمت نفسها منذ بيان أوّل نوفمبر إلى مؤتمر الصومام والدساتير المختلفة قبل الاستقلال وبعده على أنّها سردية كبرى أطرت مفهوم الجزائريين للتاريخ الثوري ردحا من الزمن. وقدمت نفسها على أنّها الحامل الوحيد للحقيقة الواحدة والمطلقة.

لقد قام بما يشبه عملية إعدام لساني استبدل بها مفردات بأخرى، وهي مصطلحات محايدة تستجيب لتحييد أسباب الحرب وحصرها في مطالب اجتماعية من فقر وتهميش، كما أشار إلى أخلاقيات أخرى سكت عنها التاريخ الثوري، كعلاقته بزليخة في الجبل واحتساء النبيذ المتكرّر، فنكون هنا بصدّد قراءة تاريخ من يصنعه، ولغاية ما، وكأنّ السارد يعلم القارئ باللّحظات التي يتم فيها تقويض التاريخ الرسمي، بصناعة لحظات أخرى له، خارج الهالة التقديسية التي ارتبطت بها، باعتبارها جهادا لا يختلف فيها الكفاح ضدّ المستعمر عن القتال ضدّ الكفر، وهو ما يعتبره السارد تمثيلات ميتافيزيقية أو إيديولوجية طوباوية.
وليس غريبا أن يختار الحبيب السايح شخصية أرسلان وهو الخارج عن المركز، ليتولّى حكاية تاريخ الشعب الجزائري من منظوره هو، بل يروي تاريخا آخر ساهم فيه تحالف فئات أخرى من الجزائريين المهمّشين، غير أنّ الاستقلال جاء بعكس ما كان يتوقّع، فلاحظنا كيف بدأ السقوط في التهميش حيث بدا أرسلان ضحية موقف غامض، تجسّد من خلال صراع مباشر مع رجل الحزب، وانتهى إلى خروجه من رئاسة البلدية كإشارة إلى التهميش الّذي تعرّض له اليساريون.

لم يكن ذلك ما أراده أرسلان، ولذلك يرى أنّ ما حصل، بعد خروج الكولون، ليس هو السّلم الّذي سعى إليه، إنّه يشخص طبيعة الأثر المفجع للاستقلال على الجزائريين من خلال تمثيل مظاهر العنف التي مورست على بيوت المعمرين، ويرسم لنا هذا العنف بين الثقافة واللاثقافة التي مثلها رجال الحزب كأسلوب من أساليب الهيمنة، ولذلك يبدو ممثل الحزب الّذي ظهر بعد الاستقلال شاهدا على ديكتاتورية مقيتة تقوم على الإقصاء والهيمنة، ولذلك نراه يسائل مفهوم الهُوية التي تكرّست بعد رحيل المستعمر، وتجسدت في الرواية من خلال إيديولوجية الهيمنة.
غير أنّ أرسلان يستطع أن يحوّل فكرة المشاركة في الثورة إلى مصدر قوة بعد الاستقلال على الرغم من توليه رئاسة البلدية، فسرعان ما تنازل عن هذا الدور وهو وظيفة أستاذ وهو الدور الّذي لم يمكنه من إحداث أي أثر في الواقع، على الرغم مما أوحى له به من تمكنه من تغيير نحو الأفضل بالهيمنة بالخطاب التعليمي، حين تخيّل نفسه يعلم تلاميذه تاريخا آخر غير التاريخ الّذي كرسته السلطة الاستعمارية، لكن لاحظنا ذوبان ابن القائد أمام سلطة مسؤول الحزب المسيطر على منافذ الخطاب وإحكام السيطرة على الخطاب، من خلال التحذير والتهديد وغيرها مما يوحي بسوء توظيف السلطة لدى حزب جبهة التحرير الوطني بعد الاستقلال.

لم يجد أرسلان مدخلا للسيطرة بالخطاب سوى تكفله بسلطة التمثيل الروائي، وما عكف على صنعه من تاريخ مواز وهو يسرد قصة التعايش التي تدور حولها الرواية، لكنّه ذاب مثلما ذاب اليهودي ولم يكن الانخراط في الثورة الّذي اصطنعه له الروائي طريقا لخلق مقاومة، أمام هيمنة رجل الحزب، الّذي أهلته جبهة التحرير الوطني ليكون طرفا فاعلا في علاقة القوة، وهي إشارة واضحة إلى أنّ التاريخ الموازي لم يكن لدى الروائي سوى مجرّد افتراض، على الرغم من أنّ قناعات عميقة كانت تسيّره، غير أنّ تلك القناعات تلاشت أمام من يتحكّمون في الخطاب ويسيطرون على العقول، ولم تجد المنفذ الفعّال لتحقيقها.

قام الروائي بتفعيل التاريخ المضاد بتحويل منظومة ثورة التحرير وجبهة التحرير الفكرية فئة مهمّشة، بتحويل دور القايد من عميل إلى مدافع عن حقوق الأهالي في قوله: « والدتي التي أخبرتني يومًا أنّ والدي قبل يومًا مسؤولية قايد » ليرد عن الأهالي غطرسة الكولون ويخفف عنهم ظلم إدارة فرنسية طالما رأيت بعيني وجودها مجسدا في الحقول والمباني والمزارع تحرّرا ورفاها وعلى حال الأهالي قهر وفقرا » غير أنّ عدم قدرته على الاستمرار في المجابهة وعدم إيجاد المنفذ الفعّال للمشاركة في إنتاج خطاب جديد بعد الاستقلال، أسهم في تأكيد الهيمنة التي مارسها حزب جبهة التحرير على خصومه بإعادة تشكيلهم وفق المشروع الّذي أراد، ولم نلاحظ معارضة فعلية من أرسلان، ولذلك نرى بأنّ الانقلاب على سردية جبهة التحرير ومحاولة تجريدها من أحقيتها في الثورة، وتعويضها بالثالوث الجديد بقي مجرّد صورة مجازية افتراضية انتهت قبل انتهاء الرواية وهو يعتبر علامة فارقة على عدم القدرة على مقاومة الهيمنة، وعدم تمكن النخبة الرمزية الجزائرية من إيجاد الطرق الكفيلة بتحقيق النفاذ الّذي يسمح بالتأثير في الإيديولوجية المهيمنة. لتعيد تأكيد ما سعى إليه الحبيب السّايح في رواية « زمن النمرود » من أنّ الرواية لا يمكنها تحقيق ما لم يتمّ تحقيقه في الواقع، وأنّ القناعات العميقة التي تبطّن الرواية القائمة على رؤية ثورية في التغيير والتجديد، انحسرت تحت غياب منطق الــ(نحن) الّذي دارت حوله فكرة التعايش، وغّذاه الذين عادوا من وراء الحدود واستولوا على السلطة، بمجرّد انتهاء الثورة، مُمثلا لهم بمسؤول الحزب الّذي يمارس كلّ أساليب الهيمنة بالخطاب من تحذير وتهديد وإقصاء، وهو جزء من تشكيل الهياكل المعقّدة للسّلطة والهيمنة.

لقد كان موت حاييم وانحسار دور أرسلان بمثابة انفكاك السحر عنهما حين جرّهما الروائي إلى إعدام حقيقي ومجازي، وكأنّ الرواية تقول إنّ التاريخ لم يكن عليه أن يغيّر من وجهته ويتبع المسار الّذي صنعته الرواية، حتى وإن كان الرأي سديدا، لقد كان أرسلان يشعر بالقوة حين كان مع حاييم مثل الظل لصاحبه ودلّ غياب الظل على عدم وجود صاحبه، لأنّ الرأي السديد لا يكون إلاّ إذا ارتبط بمصدر قوة، وامتلاك السلطة الرمزية، ولم يستطع أرسلان وهو يمتلك مصدر المعرفة إحداث أي تأثير، الأمر الّذي يجعل كلّ محاولة في التغيير مجرّد حكاية خيالية مفترضة، ويجعل الماضي الّذي حاول تقويضه من خلال هذه الحكاية المتخيّلة يعيش معنا في الحاضر، لأنّ استمرار التاريخ في الحاضر له قواعد في الهيمنة « يملكه أولئك القادرون على الإمساك بتلك القواعد »
فهل كان يجب على الرواية أن تخرج عن سردية التاريخ الثوري لكي تستعيد شرعيات أخرى كشرعية القائمين بالثورة، وهو السياق نفسه الّذي كُتبت فيه روايات أخرى تعزز هذا الطرح منذ أن بدأت مساءلة الثورة في السبعينيات من القرن الماضي وبعدها من خلال استرجاع نسق المهمّش في الرواية الجزائرية، وخاصة بعد مرحلة العنف، وتأكدت مع مطلع الألفية الثالثة.

قد يكون من البساطة التسليم، ونحن نلم ما تبقى من شتات اليهودي، أنّ بيته وقبره يشكلان رمزية خاصة ترتبط بالامتداد في الزمان، وتجعل حارس المقبرة وهو ابن أحد المجاهدين بمثابة شهادة تؤسّس لنسق تصوّري يعيد بناء الحضور اليهودي في ذهن القارئ، ولكن من السذاجة التسليم أنّ الرواية جاءت لتلغي أسطورة التيه التي ارتبطت باليهود عبر العصور، وتؤسّس للماضي الّذي يصبح حاضرا، تثبيتا لنسق الذميّة في جانبها المخصب التي تجعل لليهودي الحق في الوجود وامتلاك الزمان والمكان مع المسلمين، من أجل بعث النسق الحضاري المشترك، حتى وإن خلّف ذلك النسق الحضاري المشترك القائم على التعايش رواسب إنسانية كعلاقة الصداقة التي شيّدت عليها الرواية. وتقدمها كآلية قادرة على خلق ما يفتقد في الواقع نتيجة النزعة الإقصائية التي تمارس في المجتمع الجزائري، حتى أنّها أصبحت كتعويذة تُكرر، وتزداد رسوخا يوما بعد يوم أمام خطابات سلطوية، تحدّد الهوية بحسب الحاجة إلى العنصر الّذي يضمن لها به الهيمنة.

4-نسق الاحتراز وانكسار المشروع

إذا تمّ التسليم من خلال تعرضنا بعض الأنساق المضمرة في الرواية أنّ الروائي، اتخذ من فكرة التعايش، وحكاية اليهودي وسيلة للحديث عن موقف شريحة معينة من المجتمع الجزائري من الاستعمار والثورة والاستقلال، وساهم هذا الموقف على الرغم من المشاركة في الثورة في عملية عزل مقننة، ليتم الاستيلاء على الثورة، فمن الطبيعي تبرير خاصية المخاتلة التي تنضوي عليها الرواية، والتي ساهمت في تعرية نسق التعايش من خلال الطريقة التي تمّ إيراد حاييم بها في الرواية التي يسقط تمثيله فيها في نوع من المفارقة تؤكد انتماء معينًا لحاييم إلى هذا الوطن لا يختلف عن الانتماء الّذي وضعه فيه المخيال الإسلامي الّذي لا يمكن وضعه خارق نسق الذمية، وتؤكد عليه صمته وبقاؤه وحيدا وموته في آخر الرواية، ما يعني أنّ اللّغة في الرواية « تقوم على تعارضات تراتبية بين الحضور والغياب، الحقيقة والمظهر، الداخل والخارج، المعنى والشكل، وبأنّ الحد الأوّل يكون متفوقا على الحد الثاني، في الوقت الّذي يدرك فيه الثاني بوصفه تابعًا للحد الأوّل » ولذلك كان حاييم حاضرا وغائبا، منتميًا ولا منتميًا، حرّا ومقيدا، حاضرا في الذكرى وغائبًا في الحاضر، ولم يتسن لنا تبيّن ذلك لولا سريان نسق احترازي في الرواية، كان السارد مشدودا إليه هو نفسه الّذي فرض هذا التعارض وهذه التراتبية والّذي جعلنا نقرأ التعايش الّذي انتهى إلى أرسلان في آخر الرواية بأنّه مجرّد فكرة أو ذكرى تعبّر عن تصوّر للعالم وعلاقة الإنسان بالإنسان المختلف في لحظة زمنية معينة من التاريخ. كما تؤكد إخلال النخبة الثقافية التي يمثلها أرسلان بالدور الّذي يسمح لها بالتأثير لاستمرار البنية الاجتماعية القائمة على التعايش، ما يعني قدرة السلطة على بقاء هذه النخبة تحت السّيطرة.

وهكذا انتهى التمثيل الإيجابي الظاهر للأقلية اليهودية، بتمثيل سلبي لها وللنخبة المثقفة، فموت حاييم كان مخططا له في الرواية، فقد كان يمكن أن يهاجر تحت ضغط عنصرية ما بعد الثورة، أو يقتل أو تؤمّم صيدليته أو يحرق داخلها، لكن الروائي أماته بالطريقة الأنسب، وهي القضاء والقدر، مثلما قدّم بموت القايد ما يشبه الإعتذار من خلال الطريقة الميتافيزيقية التي أنهى بها حياته أثناء الحج في مكة، وهي تعتبر من الأدوات التي تستعملها السلطة للتأثير في العقول، وهي نفسها الصّور النمطية التي عادة ما توظّفها السلطة لإضفاء الشرعية عليها.
ولذلك يثير خطاب أرسلان أسئلة مضمرة، من قبيل ماذا لو عاش المعمرون في الجزائر وماذا لو بقي اليهود بل ماذا لو لم يكن هناك ظلم يمارس على الأهالي؟ هل كانت الجزائر تتحوّل إلى جزائر أخرى، وواقع آخر، لا نرى فيه الشباب يغامرون صوب البحر؟

لا شك أنّ هذه الرواية، لا تعكس موقفا فرديا من المؤلف إنّما هي تجسيد لتمثل مغاير بدأ يفرض نفسه كنسق في الرواية الجزائرية والعربية، فالسّايح يكتب في ظل هذا النسق الفكري الجديد الّذي يهيمن على الثقافة العربية، وهو الاتجاه المهيمن الّذي يدخل في تحقيق مشروع ثقافي عالمي، يدعو إلى التعايش، وتختلف استراتيجيات الروائيين، فمنها ما يدخل ضمن استعادة الهوية ومنها ما يعمل على تقويضها، وآخر يسائلها ليثوّر مواطن القوة فيها.
كما أنّ الاتجاه النوستالجي الّذي اقترن بخطاب أرسلان، بعد رحيل المعمرين ونبرة الأسى الملاحظة في حواراته مع حاييم، يمكن أن تضيف مبرّرا آخر للسلطة لتهميش هذه الفئة من الشيوعيين الجزائريين مسلمين أو يهودا، بحجة الموقف الايجابي من الاستعمار مثلما ورد في قول أرسلان: كنا أنا وحاييم قد رفعنا كأسينا نخب المدينة التي بدت لي ونحن ننزل من حي الدّرب راجلين نحو المحطّة كأنّ كآبة شاملة طالت منها أبوابا ونوافذ ومداخل كانت تفتحها وتغلقها أياد أخرى على أنفاس أخرى. عبّرت عن ذلك لحاييم. وافترضت له أنّ المشهد كان سيبدو جميلا ورائعا لو أنّ من كانوا فيها من الأوربيين قبل عامين يختلطون، الآن، بأولئك المواطنين الذين كنا نمشي وسطهم. يتقاسمون الشارع نفسه والفضاء. ويتبادلون التحيّات ونظرات السّلام »

إنّ هذا الموقف اليوتوبي، يدفع إلى التشكيك في الأسباب التي حدثت من أجلها الثورة وطبيعة الذين قاموا بها، وقد يطرح أسئلة من قبيل: ألم يكن قد غرّر بهم من قبل جهات أخرى تبنّت البعثية والقومية العربية، ألم يكونوا وسيلة في أيديهم، وكان الشعب ضحية التعامل مع أطراف خارجية أخرى؟ ألم تكن المآسي التي عاشها الشعب الجزائري وسياسة التجويع والتجهيل، سوى نتيجة طبيعية لمقاومة هويّاتية لم تكن مضمونة النتائج وإن ضمنت خروج المستعمر، ألم تستبدل بنظام مَارسَ ويمارس نفس أساليب الهيمنة. وهي أسئلة افتراضية يمكنها أن تتخذ بمثابة الدليل التوجيهي لإحكام السيطرة أكثر بحجة الحفاظ على مكاسب الثورة واستقلال الوطن.

ورواية أنا وحاييم، تثير احتمال لو حدث وأن مارست فرنسا فقط نوعًا من العدالة تُجاه الأهالي ألم يكن مُمكنًا أن نكون اليوم مثل بعض المجتمعات الديمقراطية كأمريكا مثلا، تشكل بنيتها الاجتماعية أجناس وديانات وقوميات مختلفة، وإذا ثبت حدوث التعايش في عهد الاستعمار ألم يكن مُمكنًا بعد الاستقلال لو بقي المعمرون واليهود والأقدام السوداء؟
بغض النظر عن إمكانية الإجابة عن هذه الأسئلة بالإيجاب، فإنّ هناك حديثا عن ذاكرة مثقوبة، وإيديولوجية فجّة عكست ذلك العنف المقنّن الّذي مُورس ضدّ الأقلية اليهودية وضدّ الفرنسيين الذين ولدوا بالجزائر وضدّ النخبة المثقفة من الشيوعيين بعد الاستقلال بالاستحواذ على الثورة وتزوير تاريخها، وغيرها من عمليات التلاعب السلطوي في صياغة النماذج العقلية التي تضمن لها الهيمنة المستمرّة.

وهذه الرواية، وبغض النظر عن موضوعها، ومن خلال ما بصرنا مِمَا تسرّب من قيم، تلخّص لنا معضلة حياة الإنسان في علاقته بالقيم، فهي تقع بين أمرين كلاهما مرّ كما قال زيغموند باومان « فكلما زاد تحصين القيم داخل الفكر قلّت أهميتها في حياة البشر الذين تشكّلت هذه القيم في الأصل لأجلهم، وكلما عظمت أثارها في تلك الحياة، قلّت قدرة الحياة التي جرى إصلاحها على تذكّر القيم التي دفعت إلى هذا الإصلاح وألهمته » ولذلك نلاحظ تعارضًا بينًا بين الأنساق في الرواية، فهناك نسق أنثروبولوجي ثقافي يسري في مفاصل الرواية، وقد دل عليه ذلك الاحتفاء الوصفي الكبير، بالعادات والتقاليد، والشخصية الجزائرية في حديث أرسلان المتكرر عن دفء العائلة ودفء الوطن، وعن رموز الهُوية التي تتجلى في طُرق العيش وفي طبيعة اللباس وروائح الأكل، والعلاقات الإنسانية، وكلّ ذلك يشكل طبيعة المُتخيل الاجتماعي، الّذي يسرد الإنسان الجزائري من حيث كونه جزائريًا، له نظامه الاجتماعي الخاص، ونسيجه المُتشابك العناصر، وأدواره التي ساهمت بها تلك العناصر في إرساء قواعد التعايش، إنّه المجتمع وقد استقل في الجسم عن طريق التربية والتنشئة الاجتماعية والتعليم والترويض بكلّ قيمه وأخلاقياته بكلّ محددات السلوك والتفكير والاختيار، إنّه ذلك التاريخ الّذي يسكن الأشخاص، وهو الملاذ الثقافي بمفهوم بورديو الّذي يدل على قوة الأصل في الوسط أو صورة التاريخ المشترك ذلك التاريخ المنقوش في الذات وفي الأشياء ولذلك فهذا النسق يشتغل في الرواية من خلال جمالية التوليد الوصفي الّذي أمعن فيه الروائي، ولم يكن يبدو أنّه مُرتبط بتصور أرسلان الشخصي، خاصة وأنّه يحكي حياته الخاصة التي بدت وكأنّها سيرة ذاتية، وليس باتجاهه الفكري، ولا بمركزه الاجتماعي الطبقي كابن قايد، ولكنّه مُرتبط أيضا بالاستعدادات الجمعية مثل أنماط التفكير، والإدراك، والتقدير والممارسة، وما له علاقة بالأفعال اليومية مثل الأكل والشرب والملابس والأثاث والفن وعادات الاستهلاك والتي عجّت بها الرواية، وطبعتها بطابع استرسالي يعبر عن سريان هذا الملاذ الثقافي في النص. كنسق معارض، حتى وإن لم يقصد الروائي ذلك، لسياسة المسخ الاستعماري والتي تدلّ عليها أسماء الأماكن والشوارع التي أصبحت فرنسية. وأمعن التدقيق فيها، لتدل على أنّ التسمية لا يمكنها أن تخترق العناصر المولّدة للتمثلّات الاجتماعية للهُوية الجزائرية، والمتحكّمة في الممارسات، التي هي ترسبات تختفي بين ذكريات أرسلان لطفولته وحياته وتعبرّ عن التاريخ الّذي يسكنه، وتُمارس على المُتلقي سلطة من نوع خاص هي سلطة الأنساق المُضمرة التي « ينجذب نحوها المتلقون دونما شعور منهم لأنّها أصبحت تشكّل جزءا هامًا من بنيتهم الذهنية والثقافية»
لقد أشرنا سالفًا أنّ فكرة التعايش ليست في الوقت الحالي من الأسئلة المُلحة في الثقافة الجزائرية على الرغم من أنّها فكرة مُلحة في الثقافة العالمية، لأنّها وُظِفت في العالم العربي في سياق مختلف عن الّذي وُظِفت به في الغرب، وأشرنا في مقدمة حديثنا عن الرواية إلى التردّد الّذي ينتابنا ونحن نقر، بأنّ هذه الرواية، مجرّد تسويق لفكرة من الأفكار التي تُروّج لها ثقافة العولمة، لأنّ التسليم بهذا الأمر، يجعلنا لا نرى في الرواية سوى وسيلة لتسويق أفكار، تخدم طروحات العولمة، ويكون التعايش مجرّد فكرة تضليلية وضعت حجرة عثرة في طريق الأمة العربية لقبول فكرة التطبيع.

غير أنّ الأنساق المُضمرة التي بصرنا بها، تجعلنا نخلص إلى أنّ الرواية قامت على تفكيك الأسباب التي تسهم في تشكيل السلطة وأساليب الهيمنة في المجتمع الجزائري، والتي جعلته ينتقل من مجتمع متعايش في ظروف قاهرة هي ظروف الاستعمار، إلى مجتمع مُنغلق على هويات جهوية وإيديولوجية، وقد تمّ اتخاذ ذلك الانغلاق كأداة من أدوات تحقيق السلطة وهيمنتها على القيم والمتاجرة بها من خلال الدعوة إلى الثورة على الظلم والاستقلال وبناء مجتمع موحّد ومنسجم لتبني إيديولوجية مهيمنة تضفي شرعية على ممارساتها الإقصائية والسيطرة على الإنتاج الرمزي للمجتمع الجزائري وتتخذ كلّ ذلك وسيلة لبسط النفوذ، والهيمنة على العقول والوجدان.
ولذلك فإنّ فكرة التعايش مع اليهود، التي ليست موضوعًا في ذاتها، يمكن سحبها على التعايش بين الجزائريين فيما بينهم، وهل بإمكانها أن تجعلنا نتجاوز حالة الضعف والهوان التي يعيشها المجتمع والمثقف الجزائري، خاصة ونحن جزء من العالم الّذي يعيش حالة من عدم الاستقرار في كلّ مكان، اعتبرها الغرب أنفسهم من أبرز سمات الحياة المعاصرة، وأشدها عذابا عليهم، فالمثقفون الفرنسيون يتحدّثون عن فقدان الاستقرار، والألمان عن عدم الأمان، ومجتمع المخاطر، والإيطاليون عن اللايقين، والانكليز عن عدم الأمن » فهل استعادة فكرة التعايش تدفعنا إلى الخروج من آثار اجتماع كلّ هذه الحالات عندنا؟

لقد وضعت الأنساق الثقافية الحبيب السايح في أسرها، عندما بدأ في حكاية قصة التعايش مع اليهود في الجزائر من خلال حاييم، غير أنّ فكرة التعايش ذاتها ساهمت في تشكيل دلالات نسقية مبثوثة في الخطاب الروائي، هي بمثابة العيوب النسقية بمفهوم الغذّامي التي كانت ولا تزال مسؤولة عن الحالة الجزائرية في خطابها الإشكالي عن الهوية، وفي طبيعة السّلطة المهيمنة التي تضع الجزائري في جو من الإرباك العقلي والوجداني، مثلما تضع الروائي في رهانات كبيرة وأوّلها رهان الرواية التي أصبحت اليوم كائنًا متحوّلا كأنّه الحرباء، تعيد النظر في ذاتها كلّ صباح، وتغير لباسها ولا تبالي.

الإحالات

يُراجع، لطيفة الدليمي، فيزياء الرواية، وموسيقى الفلسفة، حوارات مع روائيات وروائيين، دار المدى، العراق 2016، القول لجي إم كوتزي ورد كعتبة لمقدة المترجمة، ص11.
– فيزياء الرواية، ص 12.
– سمير خليل، النقد الثقافي من النص الأدبي إلى الخطاب، ط1 دار الجواهري، بيروت/دمشق، ص29.
– يراجع، محمد بوعزّة، تمثلات الهوية في رواية دنيا لعلوية صبح، مجلة تبيّن، العدد20/5 ربيع 2017، ص30
https://www.dohainstitute.org/ar/lists/ACRPS
– مقدمة فيزياء الرواية ص 15 /16.
– الحبيب السايح، أنا وحاييم، ط1/ دار ميم للنشر، الجزائر 2018 ص73.
– الرواية ص ص62.
– حوار. لينكس كالي مع الحبيب السائح.
– الرواية، ص 206.
– الرواية، ص 199.
– زيجموند باومان، الحداثة السائلة، تر: حجاج أبو جبر، ط2، الشبكة العربية للأبحاث والنشر بيروت، 2017 199
– الرواية ص332.
– يُراجع فكرة التطهر في الحداثة السائلة، ص 252/254.
– براندا مارشال، تعليم ما بعد الحداثة، المتخيل والنظرية، ترجمة وتقديم السيد إمام، المركز القومي للترجمة، القاهرة 2010 ص 195.
– الرواية، ص 119.
-الرواية، ص299.
– تعليم ما بعد الحداثة، ص215.
– المرجع نفسه، ص37.
– الرواية، ص ص263.
– زيغموند باومان، الحداثة السائلة ص92.
– سمير خليل، النقد الثقافي من النص الأدبي إلى الخطاب، ص105.
– المرجع نفسه، ص108
– إسماعيل خلباص حمادي، إحسان ناصر، « النقد الثقافي مفهومه، منهجه إجراءاته »، مجلة كلية التربية، جامعة واسط، العدد 13 العراق،2013 ص 17.
– المرجع نفسه، ص231.

الدكتورة آمنة بلعلى
كلية الآداب واللغات -جامعة مولود معمري، تيزي وزو