د. جميلة رحماني
رحلة إلى الهناك ، للروائي محمود جاسم النجار

سفر سردي عبر « رحلة إلى الهناك » للروائي محمود جاسم النجار

وهب محمود جاسم النجار الشاعر والروائي؛ العراقي المقيم بهولاندا؛ نفسه للحرف، وأعطى الكلمة ألقها وهامتها. جاس خلال دروب الدلالة بحثا عن خَبىءِ المعاني وجمالية الجمل. اغترف المعاني من محبرة الواقع، فأتانا ناسكا على مذهب الكلمة وقد تدثر برداء الكتابة وتوضأ بماء الحرف النقي وصلى فوق محراب السرد المقدس آمنا مطمئنا، ليمضى تاركا على طاولة الإبداع دهشة وإعجابا. كاتب يحتمي برقة السرد كي يهزم الوحدة، وهو متأبط ذراع الحلم فتنزفه سطور وتعزفه سيمفونيات.
رواية « رحلة إلى الهناك » للروائي محمود جاسم النجار الصادرة عن مؤسسة أوطان للنشر، هي ثالثة الأثافي التي تنضاف إلى رصيده بعد روايته « لظىى الذاكرة » و « القلب البديل ». رواية نثر عليها عطر كلماته وهو يتدثر فصول الذات ويتزمل قلق الوجود، لتبدو لك أول وهلة كمرجان متناثر على بساط من مخمل، مكرسا حبر قلمه الذي لا يملك سواه لملامسة القضايا الوطنية والقومية والإنسانية. لأن اختياره كتابة السرد لم يأت عبثا، بل وليد رغبة دفينة للتعبير عن هموم الذات وهموم المجتمع والإنسانية، والاحتراق في أتون نارها، ونفض غبار الأيام والانتظار واكتشاف منابع الضوء حتى تذهب أحزانه مثلما تتولى الأزاهر عندما يهبط الفجر من الفضاء الرمادي، فالتشويش في العيش أفضل مُسْتَحِثٍ للقريحة. رواية تبكي جرحا لا يندمل، وغصة مريرة كلما سافر بذاكرته إلى الماضي لينشر ذكرياته على حبل السرد. ففعل التذكر يقتل الحاضر ويتلذذ بالمشي فوق جثثه، وهو مولد للألم وناكئ للجراح.
« رحلة إلى الهناك » رواية تُشْعرك بأنك أمام مبدع مصاب بداء القلق والخيبة والإحباط. خرج من معطف الصمت ليفرغ ألمه وأمله. ويقتحم الواقع ومجاهله وخفاياه ناسجا منه رداء روايته، وكأنه أس المنطلق. يمتطي صهوة الأحلام، ويشدّ الرحال طويلا تتقاسم رحلته محطات متعالقة، ليعيش مفارقة بين دفء الأمس الذي ولى وبرودة الراهن المستمر. بعبق التمرد والمقاومة يستحم السرد عنده، ومن ينابيع الواقع يورق ويزهر. حيث يتحوّل إلى بؤرة حبلى بالدلالة، موقدا جمرة الكتابة السردية، وزهرتها المخلّدة، ونارها الموقدة، ليبتسم السحاب عن برق رواية تسرق المطر من جيب الشتاء.
لا يفتأ محمود جاسم النجار ينحت بإزميل الحرف الراقي من خلال شخصيات روايته مأساة الإنسان العربي وعذاباته وضياعه وهوانه وهو يجلس القرفصاء على شبابيك الانتظار والألم، وهو يرتشف من فنجان الهزيمة والذل، ونكث العهود وكأنه زيزفون يزهر ولا يثمر. وأقضّت مضجع الرواية، فاشتعلت تشويقا وجدبا لمتابعة شريط الأحداث. وبين هذا وذاك تجلس بغداد داخل قلبه متكئة على نبضه تشعل في صمت أوصاله، وتعلق تعاويذ العشق في كل أطرافه، متضخم بعشقها حد الامتلاء. ذنب هذه المدينة أنها جميلة كيوسف وخانها العالم كإخوته. فـصوت حب بغداد في دمه يشدو لحنا خبئه بين أعماق كتاباته، وعطره توغل بين مسامه حتى أثمل قلبه.
هل أتاك حديث « رحلة إلى الهناك » حيث يمتطي الكاتب صهوة المعنى دون أن يخل ببهاء العبارة الموشومة بالروعة، وقوة الإحساس التي تلهب الحروف ليلقي بضوئه على عتمات الجمل. إذ جاءت كلماته حبلى بالمشاعر الصادقة تترجم ترانيم الحياة والأحاسيس، مقترفا جمالا مع سبق العشق والجنون. فعندما يكتب محمود جاسم النجار تتفتح أزهار كلماته وتتعطر سماء العبارات لتعزف لحنا سرمديا على أوتار الصور. ويعتصر من السحاب رذاذا يروي ظمأ أفئدة مفعمة بعشق الجمال. ويشعل فتيل أغنية الحرية، ليغتال الصمت وتستفيق الحكاية لنشد الرحال ونمضي مع « رحلة إلى الهناك »

د. جميلة رحماني – المغرب