الادب في باريس
تجارة الأدب في باريس

باختصار، الأدب اليوم هو الرواية, يصدر في باريس وحدها، خريف كلّ عام، زهاء سبعمئة رواية. بعض هذه الروايات يموت لحظة ولادته وبعضها الآخر لا يعيش في المكتبات أكثر من ثلاثة أشهر. ضمن هذا المناخ التسويقي الذي لا يرحم، تصبح الكتابة التي تبلغ النجاح المادي والإعلامي أشبه بالمنيّ. النطفة الأولى هي التي تخصّب بويضة رأس المال، وما دونها يتخلّف وراءها ويضيع الروايات التي يمكن تسليعها بسهولة تمتلك الحظوظ الأكبر في النجاح بعد أن أصبح الإعلان عن النتاج الأدبي والترويج له أهمّ من النتاج نفسه… من روائيي القرن العشرين من أمثال فرانز كافكا وهرمن هسّه وفيرجينيا وولف وجايمس جويس إلى إميلي نوتومب وباولو كويلو ومارك ليفي. هذا الأخير عندما يتناوله النقد في فرنسا إنما يركّز على أنه الكاتب الفرنسي الأكثر مبيعاً، ويأتي التعريف به بالأرقام، على الصورة الآتية: «بدأ الكتابة منذ عشر سنوات. له عشرة كتب نُقلت إلى إحدى وأربعين لغة، وبيع منها أكثر من عشرين مليون نسخة. روايته «سارق الظلال» بيع منها أربعمئة وخمسين ألف نسخة. معدّل المسافة التي يجتازها خلال شهرين ونصف الشهر للترويج عن كتاب جديد له تبلغ مئة ألف كلم». من جانب آخر، وفي مجال البيع والشراء دائماً، بيع من رواية ميشال ويلبيك «الخارطة والإقليم»، في الأسبوع الأول لصدورها، أكثر من ثمانين ألف نسخة. هكذا أصبح الحديث عن بعض الروايات الرائجة أشبه بالحديث عن نتائج اليانصيب الوطني يقول باسكال كينيار في كتابه « الظلال التائهة » الحائز على جائزة « غونكور »، إنّ الشيء الوحيد الذي يُقرأ في معرض الكتاب في فرانكفورت (أحد أكبر معارض الكتب في العالم) هو دفتر الشيكات الأدب الرائج اليوم والذي يسجّل أرقام مبيعات عالية هو أدب الإلهاء والتسلية. هذا النوع من الأدب لا تتطلّب قراءته جهداً ولا ثقافة. وما يحدّد قيمته ونجاحه وشهرته هو، في الغالب، قيمته الشرائية لا الجمالية والفنية. التجارة هي الأساس بعدما أصبحت الروايات تشكّل صناعة قائمة بذاتها في الغرب. صناعة تَستخدم قنوات محددة وجيوشاً من المتواطئين، من وسائل الإعلام والنقاد وسوق النشر إلى المهرجانات والجوائز. ولا أبالغ إذا قلت إنّ بعض الأعمال الروائية التي توصَف، في بعض وسائل الإعلام العريقة، بأنها خارقة ورائعة ومتميّزة، هي، في الواقع، أقلّ من عاديّة ولا تقدّم أيّ إضافة إذا كانت الاعتبارات التي تجعل هذه الرواية تصل وأخرى لا تصل، هي، في معظم الأحيان، اعتبارات غير أدبية، فهذا لا يعني على الإطلاق أن ليس ثمة روايات مهمّة وتستحقّ التقدير، لكن هذا النوع من الروايات هو النُّدرَة والاستثناء. وهو « الجوهرة تحت الأنقاض »، حسب تعبير جلال الدين الرومي

عيسى مخلوف باريس 12 ديسمبر 2014