محمود درويش
محمود درويش الغائب الحاضر

حقق درويش المعادلة الصعبة لمّا زاوج بين شعبية الشعر وانتشاره، وبين كونهُ شعراً حداثياً مُقنعا ًلم يتنازل عن شروط قيامه وتحققه كشعر أصيل لناحية جمالياته وتجريبيته، ولم يتساوق مع الذائقة الجمعية السائدة التي تأنس للسكون وتميل إلى الغنائية وترتكن إلى النبرة العالية والخطاب الحماسي والتعبوي، والتي هي مُهيمنات تحُد من شِعرية القصيدة وتُحجّم من تأثيراتها وإشعاعها .

وبعد أن اجتاز درويش مراحل عدة بدأها بشعر المقاومة، وهي السِمة التي غلبت على شِعرهِ حتى أنهُ عُرفﹶ بها واشتهر صحبة ثُلة من الشعراء الفلسطينيين كتوفيق زياد وسميح القاسم وعبد الرحيم عمران، إلى الحد الذي جعلهُ أواخر حياته يضيقُ ذرعاً بسجنه من قِبل متذوقي الشعر من العامة ومن النُقاد في صفة شاعر المقاومة أو الشاعر التحريضي، وهو المجبول على التجريب والانطلاق وتجاوز ذاته في كل مرة يكتب فيها رغم التزامه بقصيدة التفعيلة التي لم يتعداها إلى قصيدة النثر، ولهذا رُبما لاحظ أول ما لاحظ القارئ تلك الإيقاعية والغنائية في شعره والتي لم يتخلى عنها حتى نهاية منجزه، ولدرويش الحق في إعلان ضيقه ليمحو الصورة النمطية التي انطبعت في أذهان قطاع كبير من المتلقين عنهُ كشاعر مقاومة، فالشاعر أكبر من أن يُحصر في زاوية ضيقة ويُختزل في جانب أُحادي والشاعر ظاهرة أوسع من أن يتم تنميطها وتأطيرها .

وتحت هاجس التجاوز انتقل درويش من المقاومة إلى هامش أرحب فكتب قصائد إنسانية تتجاوز قضيته وقضية شعبه تتجاوز الآني والموضوعي إلى المطلق والمشترك إنسانياً بحيث تُلائم القصيدة المتلقي البعيد الذي يجهل القضية الفلسطينية – مع أننا نستطيع أن نعُدها قضية عالمية انسانية – مثلما لقت استحسان المتلقي الفلسطيني والعربي المُلم بدقائق القضية الفلسطينية، ليصل أواخر عمره إلى مرحلتهُ الختامية وهي التي يمكن أن نسميها تجاوزاً المرحلة المستقبلية أو المرحلة الماورائية الفلسفية، حيثُ الهموم وجودية وحيثُ العودة إلى الذات كمرجعية للقول والانفصال بمقدار عن المجتمع لتأكيد الفردية وتحقيق التمايز حيثُ الأسئلة الكُبرى تعود بألحاج أكبر لتحتل واجهة التفكير، في حين تتأخر أو يتم تأجيل كل ما عداها .

ويظهر أثر ذلك جلياً في قصيدته أو مُطولته ( الجدارية ) التي وضعها العام 2006 ثُم في قصيدته ( لاعب النرد ) وفيهما بوضوح يكاد يكون تقريرياً أحياناً، تناول الشاعر بطريقة فلسفية عميقة الوجه الآخر للحياة وهو الموت، بعد أن سيطر عليه هاجسه، وقد اقترب من السبعين من عمره وتلبسهُ ذلك الشعور المستبد بدنو الأجل، فإلى جانب أنهُ طعنﹶ في السن حمل الشاعر داخل جسده عطباً لا يمكن مُداراته أو مُهادنته إذ امتلك على الدوام شرايين هشة أحس بأنها قد تخذُلهُ في أي لحظة – وهذا ما حصل بالفعل فيما بعد – وهي العوامل التي ساهمت إلى جانب مُعاناة شعبه في تقريبه من تدشين مرحلته الأخيرة ، ففي قصائد هذه المرحلة تختفي نبرة التحريض ولهجة النضال وتخِف حدة الحنين – عدا حنينه إلى قريته أو كنزه المفقود البروة – رغم وضوح يأسه ومرارته فيما يخص قضية شعبه الفلسطيني، يختفي هُنا العام لصالح الخاص والمجموع لصالح الفرد، يعود الشاعر إلى ذاته التي أحس بأنهُ أهملها وتناساها طويلا، ليقول الداخل والجواني بعيداً عن تأثيرات الخارج المُحول للأنظار المُشتت للتركيز، في هذه المرحلة يُكثر درويش من ذكر واستحضار الموت في أشعاره كما لو أنهُ يتمرن عليه أو يتلقى فيه دروساً، كما لو أنهُ يُحاول التهدئة من ضراوته إلى حد أنهُ هاجمهُ وتحداه وقلل من شأنه بعد أن أعيتهُ الحيلة فيما يبدو في التغلب عليه وهزيمته، وهو المفترس الصامت الذي يقتات بالأجساد ولا يشبع أو يرتوي منها .

وإن لم يستطع الشاعر هزيمة الموت ظاهرياً عندما يتقابل معهُ في نهاية الأمر وجهاً لوجه، فأنهُ يستطيع أن يهزمه بشعره الذي سيظل خالداً ما ظلت الحياة، فالموت في نظر درويش على قسوته لا يستطيع مهما أوتيﹶ من قوة وقهر أن يقضي على إبداع مهما قل شأنه ففي الجدارية يُخاطبهُ في عقر قوته متحدياً لجبروته وقهره بقوله : هزمتك الفنون كلها يا موت .

والشاعر هُنا كأنهُ يُهيئ نفسهُ لموت طويل ويتدرب على استقباله حين يتناولهُ في شعره بأوجه عدة، فتارة الموت مهزوماً من قِبل الأنسان في نظر الشاعر وتارة هو عبثياً وتارة هو المُخلّص، كل هذه الأوجه والمعاني جاءت في أهاب قصائد شفيفة ظلت مُحافظة على موسيقاها النابضة، والقادرة على شد المتلقي من طرف ذائقته وجره إلى تفاصيلها على الدوام لا سيما عندما يتمثلها القارئ المحترف ملقاة بصوت قائلها المُميز عند قراءتُهُ لها وتتبعه لمقاطعها المموسقة والمُنضدة بشكل احترافي ومِهني، إذ كاد درويش أن يتخذ الشعر مهنة وحرفة ويتفرغ لهُ لولا انشغالاته السياسية والصحفية وكثرة تنقلاته وأسفاره ومِشاركاته في الملتقيات والمنتديات والمؤتمرات الشعرية والأدبية .

ورغم تجريبيته البائنة التي بمقدور القارئ العادي ملاحظتها والتفاعل معها وتتبعها بيُسر، وتجاوزه لمنجزه في كل مرة إلا أن الشاعر لم يكتُب قصيدة النثر المُغرية التي اتجه إليها الكثيرون وظل مُخلصاً لقصيدة التفعيلة بغنائيتها وإيقاعها المتحرر نسبياً من سطوة القافية، فجمع بذلك ما بين القديم المتمثل في الإيقاع واللحن والحديث المتمثل في التجديد على مستوى اللُغة وتفجير إمكاناتها – بحسب توصيف جماعة مجلة شعر اللبنانية التي تبنت قصيدة النثر أول طلوعها – وإيجاد علائق استثنائية بين مفرداتها من أجل الوصول إلى معاني غير مطروقة ورسم صور غير متحققة، حين تضعنا جملة درويش الشعرية لاسيما في مرحلته الأخيرة، في بؤرة الأندهاش والأنبهار قريباً من الحقيقة على بُعد خطوات من النبع .

وانطلاقاً من إيمانه بهِ، كان درويش يكتب الشعر بضراوة فائقة كمن يفتكّ الدقائق والثواني من براثن الموت المتربص بهِ، كمن يستنفد البُرهة المُتاحة لهُ فوق هذه الأرض في اجتراح شيء ذا قيمة قد يُكتب لهُ البقاء والخلود بعد رحيله، كمن يُخلد نفسه في الكلمة ويُمدد عمرهُ فيها، مثل من يغتصب الحياة بقوة الخيال بقوة الكلمات كان يُحرر ذاته بالاستعارة مثلما قال ذات قصيدة وكأن المجاز سلاحه الأخير الذي ما انفك يُشهرهُ في وجه العدم قبل أن يتمطى هذا الأخير ويحتويه ليعود إلى رحم الوجود منتظراً وِلادة أُخري تجود بها الأقدار .

ففي قصيدة لاعب النرد تلح عليه أسئلة الوجود الكُبرى عن المصير والمآل ويقترب من إشكالية الموت أكثر حين يُنشئ قائلاً بلهجة ساخرة متهكمة من الموت والحياة معاً وحين يعزو وجودهُ – ذلك الكثيف – إلى الصدفة وامتداد عمره إلى الصدفة وانشغال الموت عنهُ حتى حين بأشياء أُخرى أو بأجساد أُخرى إلى الصدفة، فالصدفة برأيه هي التي أتت به وجعلت منهُ ذكراً وفلسطينياً والصدفة هي التي ستذهب بهِ، فما هو حسب توصيفه الشعري إلا لاعب نرد يربحُ حيناً ويخسر أحياناً أو مصيرهُ مرتبطاً بالنرد فكُل أمرهً متروكاً للصدفة أو لِما لا كُنه لهُ، وعن نجاته ذات حملة تهجير يقول :

نجوتُ مُصادفة، كنتُ أصغر من هدفﹴ عسكريّ
وأكبر من نحلة تتنقل بين زهور السياج
وخِفتُ كثيراً على إخوتي وأبي
وخِفتُ على زمنﹴ من زُجاج
وخِفتُ على قطتي وعلى أرنبي
وعلى قمرﹴ ساحر فوق مئذنة المسجد العالية
وخِفتُ على عِنب الدالية
يتدلى كأثداء كلبتنا
ومشى الخوفُ بي ومشيتُ بِهِ
حافياً، ناسياً ذكرياتي الصغيرة عما أُريد
من الغد
لا وقتﹶ للغد .

وهُنا يستعيد محنة التهجير القاسية إلى أن يقول :

ليس لي دور بما كنت
أو سأكون
هو الحظ
, والحظ لا أسم لهُ قد نُسميه حدّاد أقدارنا
أو ساعي بريد السماء
نُسميه نجّار تخت الوليد ونعش الفقيد
نُسميه .

ومُخاطباً اثنين من أصدقاءه في حضرة هاجس الموت أيضاً يقول درويش :

إن كان لابد من حلم
فليكُن خفيفاً وبسيطاً
كأن نتعشى معاً بعد يومين
نحنُ الثلاثة
مُحتفلين بصدق النبوءة في حلمنا
وبأن الثلاثة لم ينقصوا واحداً
منذُ يومين
فلنحتفل بسوناتا القمر
وتسامح موت رآنا معاً سُعداء
فغض النظر .

وفي الجِدارية يلح عليه ويضغط على روحه ذات الهاجس فيقول بتأثير من إلحاحه، مادحاً الحياة هذه المرة وفي ذلك ذم للموت وقدحِه من جهة مُعاكسة .|

كل شيء باطل
فاغنم حياتك
مثلما هي بُرهة حبلى بسائلها
دم العُشب المُقطر، عِش ليومك لا
لحلمك كل شيء زائل، فاحذر
غداً وعِش الحياة الآن في امرأة
باسقة
تُحبك، عِش لجسمك لا لوهمك
وانتظر
ولداً سيحمل عنكﹶ روحك
فالخلود هو التناسل في الوجود
وكلُ شيء باطل أو زائل أو
زائل أو باطل .

والشاعر أخيراً كأنهُ حاز راحة البال وسكينة النفس بعد أن وجد الحل لمُعضلة أرهقت الفلاسفة والمُفكرين والعُلماء، فالخلود الذي ينشُدُهُ الكُل منذُ جلجامش وحتى اليوم لن يتحقق إلا في النسل، وهكذا قُضيﹶ الأمر الذي فيهِ يتجادل الجميع، فلا حقيقة سوى هذه الحقيقة على بداهتها وعلى بساطتها، رغم أن درويش عاش حياته عازباً ولم يتزوج ولم يمتد نسله في أبناءه من بعده ، وسواء وعى الشاعر ذلك أو لم يعيه وباعتبار أن الشعر نص واحد يكتبهُ الشعراء كلٌ بطريقته ، وأن لابد للشاعر من أن يتأثر ويؤثر وإن لم يقصد ذلك، تماهى شاعرنا في قول أحد الشُعراء القُدامى وأعتقد أنهُ الشاعر الضرير بشار ابنُ برد : كل نعيم لا محالة زائل *** وكل ما خلا وجه اللهُ باطل، وإن التقى القولان في بعض النواحي وافترقا في بعضها الأخر هُنا .
وقبل هاتين القصيدتين وفي قصيدته ( حالة حصار ) التي نُشرت في الديوان الذي يحمل ذات الاسم عام 2002 ومُبكراً يُخاطب قارئه من موقع وجوده كإنسان أو كشاعر أو كمشروع شهيد مؤجل يستعد لمواجهة الموت، ولإرباكه بإقباله على الموت على غيرِ توقع من الموت وبلا تهيب، يُخاطبهُ قائلاً بثقة من سيولد نقياً من أوصابه من جديد .

على حافة الموت
لم يبق لي موطئ للخسارة
حرٌ أنا قُرب حريتي
وغدي في يدي
سوف أدخُل عما قليل حياتي
وأولدُ حُراً بلا أبوين
وأختار لأسمي حروفاً مِن اللازورد .

ولا تخفى في قوله : لم يبق لي موطئ للخسارات ، على القارئ الحصيف للشعر ظِلال قول المتنبي في لائيته، فصِرتُ إذا أصابتني سهام *** تكسّرت النصالُ على النصالِ فالصورة تكاد تكون واحدة، وهُنا شاعر كبير لا يجد ضيراً في الأتكاء على شاعر كبير آخر، أو لعلهُ فعل ذلك دونما نية مُبيتة انطلاقاً تأثُرهُ بغيره وتأثيره في الآخرين فالشعر تراسل وأخذ وعطاء في نهايته .

وهكذا يغدو الموت الذي هو نِهاية الحياة في الواقع وفي المتعارف والمتفق عليه من قِبل الجميع، يغدو في عُرف الشعر والشاعر، المُخلص أو المدخل لحياة أُخرى أكثر حرية وأكثر جدوى وأكثر نصاعة .

هكذا أيضاً نجد درويش الغائب جسداً الحاضر شعراً مهموماً بالموت مسكوناً بِهِ مستشعِراِ لخُطاه الهادرة في نفسه متحسساً لدبيبه في أوصال الروح، وإن لم ينشغل الشاعر بالموت، فبماذا سينشغل ويؤثث شِعره، ففي انشغال الشاعر بالموت من ناحية أُخرى تقديس للحياة واحتفاء بها، شرط ألا يضحى الموت وما وراءه هاجساً يمنع الشاعر من الاستمتاع بحياته ويُنغصها عليه، ونكاد نُجزم بأن ما من شاعر جاد صاحب مشروع حقيقي لم يستوقفه موضوع الموت ولم يطرح فيهِ رأيه شعراً، فالشعر في أساسه تأمل وتدبُر وما انفك الموت عن أن يكون الموضوع الأمثل للتأمل، ولكي يقول الشاعر الحياة وهذا بعض أو كُل رِسالته ويكتشفها، عليهِ أن يُحاور الموت ويُحاول فلسفته والتفكير فيهِ وبِهِ .

ناصر سالم المقرحي