ثريا وقاص
حلقة الشعر المفقودة : ثريا وقاص، من المغرب

باريس، ذات مساء ربيعي أواسط التسعينيات.
كنت أتكاسل قليلا في غرفتي (تلك الغرفة التي كانت فيما مضى مع الغرف المجاورة  في ذلك الطابق السابع من تلك العمارة الراقية على شارع ميكيل أونج (مايكل أونجلو) في الضاحية السادسة عشر،غرفا للخادمات قبل أن تتحول الى غرف للطلبة الأجانب) كنت في الغرفة اذن عندما رن هاتفي و جاءني صوتك يستعجلني : البسي معطفك و انزلي، سأكون أمام الباب بعد خمس دقائق.
تنطلق السيارة من الضفة اليمنى لنهر السين الى ضفته اليسرى وأمام كلية الطب المغلقة مساء ذلك السبت البعيد توقف سيارتك وننزل.
أنظر الى البناية الضخمة التي ما كنت أحبها كثيرا تلك الأيام وأقول لك محبطة: تأتي بي الى كلية الطب حتى يوم السبت؟  و الله هذا حرام.
تبتسم برقة ثم تأخذ يدي ونهبط شارع ليكول دو ميدسين( مدرسة الطب) و نتوقف عند رقم 6 أمام سينما راسين أوديون التي كنت أحب.
هذه السينما التي اكتشفتها معك كانت تعوم دائما ضد التيار و تقدم لجمهورها، عشاق السينما مثلك، كل الأفلام التي تركت بصمتها على الفن السابع و كانت بعد العرض، تغري الجميع بالبقاء للنقاش الحميم حول فنجان قهوة ( وكم من مرة  بقينا هناك الى الصبح نناقش بعض الأفلام الجديرة بالليالي البيضاء مع فرنسيين رائعين).
و هذه السينما اشترتها شركة أخرى فيما بعد و قد جددتها سنه 2010 فصار اسمها اليوم نوفيل أوديون (أوديون الجديد)).
ذلك اليوم،  كانت قاعة سينما راسين أوديون تعرض فيلم “مجتمع الشعراء الأموات”، هذه الترجمة الحرفية العربية من الانجليزية لا أحبها كثيرا و أفضل عليها الترجمة الفرنسية “حلقة الشعراء الموتى( أو المفقودين)”.
  و كان الفيلم  قد خرج  و حسب الاعلان منذ عدة سنوات و لاقى نجاحا كبيرا.
فرحت حين تبين لي بأن البطل هو روبن ويليامز الذي كنت قد اكتشفته و لأول مرة قبل بضعة اسابيع  فقط  من ذلك على القناة الفرنسية الثالثة  في الفيلم الرائع ” صباح الخير فيتنام” .
يدي كانت في يدك خلال العرض و لكنهما ظلتا و على غير عادتهما هادئتين تماما احتراما لتركيزنا الكبير على الفيلم.
ما من مرة انحنت شفتاك على أذني كما تفعلان دائما لتهمسا لي بقلق رجل ليس واثقا من حسن اختياره : هل أعجبك الفيلم؟
كنا صامتين مأخوذين حتى اللقطة الأخيرة ، و لم نكن وحدنا في تلك الحالة من الخشوع فالقاعة كلها كانت تحبس أنفاسها و غارقة في الشاشة.
خرجنا من العرض و موسيقى موريس جار الأخيرة ما تزال ترن في آذاننا، و جملة “قبطاني، يا قبطاني” عالقة بشفاهنا.
كان يجب أن  نشرب فنجانين من القهوة لنسترد حواسنا و نشارك في النقاش التي تبع الفيلم.
تحدث الجميع يومها عن التعليم و التدريس و المدرسين ، عن الحرية و هل يمكن منحها كاملة لمراهق صغير لم يستوعب  بعد معناها الصحيح.
تحدثنا عن الشعر و عن دوره في الحياة و رسالته التي عليه استعادتها اليوم ليعيد النبض ليومنا الروتيني الرديء.
النقاش كان جميلا و متشعبا و الجميع أحب روبن ويليامز المؤثر العميق في الفيلم و دوره الذي أتقنه بشكل كبير.
 و لكن عن تأثير هذا الفيلم الفعلي في أجيال المراهقين التي ما تزال تشاهده الى الآن لم يتحدث  أحد و لا يتحدثون و قد كنت أنا من الذين غير الفيلم مسار حياتهم.  
 تلك السنة كنت صغيرة جدا و كنت قد جئت باريس لأدرس سنة أولى طب في جامعة رونيه ديكارت المتواجدة  في نفس شارع سينما راسين أوديون و كنت أنت قد سبقتني الى هناك بعدة سنوات و تنوي أن تتخصص في أمراض القلب و الشرايين و تخصصت فعلا و لكنك رحلت عنا قبل أن تفتح عيادتك.
يوم شاهدنا ذلك الفيلم معا كنا في فترة الاستعداد للامتحانات و كنت أنا منهكة و محبطة من شعبة اخترتها عن حب دون أدنى شك (اذ منذ أن وعيت و اجابتي عن سؤال:”ماذا تريدين أن تصبحي حين ستكبرين؟” كانت هي نفسها لا تتغير:”طبيية”) الا أنني وجدتها حينها بشعة لتعاملها مع جثث بني الانسان.
كان ابي في ذلك الوقت يراني طبيبة و يفكر منذ ولوجي لتلك الكلية في عيادة تليق بي.
أعترف بأن الفيلم جاء في وقته بالضبط ليساعدني في الحسم في مستقبلي مرة واحدة و الى الأبد رغم علمي الشديد بأنني سأغضب أبي و فوق ذلك أمدني الفيلم بحلم آخر(الأحلام أيضا تتغير، فتصور) فصرت أطمح في أن اصبح أستاذة أدب،  و  مثل روبن ويليامز في الفيلم ، سأعلم  قطعا طلبتي كيف يفكرون و يختارون بأنفسهم و  كيف يحبون الشعر(أنا اليوم أستاذة و لا أدري الى أي حد ساعدت طلبتي في تحقيق ذلك، لا أدري حقا و ذلك موضوع آخر)
كل ما أعرفه هو أنني و بعد خروجي من قاعة العرض حينذاك، لم أتردد لحظة واحدة، و دون أن أستشير اي أحد  كنت آخذ موعدا في يوم الأثنين الموالي مع مسئولة الشعبة و أصارحها برغبتي في تغيير الجامعة والتخصص.
بعد نقاش طويل معها، أعطت لي تلك السيدة المهذبة شهادة موافقة وضعتها مع ملف التسجيل الأولي في جامعة السوربون، فسم الأدب الفرنسي و هكذا اخترت الشعر و تركت الطب لأخوتي.

 لا أذري ان كان روبن ويليامز يدرك  قليلا هذا الذي صنعه دوره السينمائي ببعض المراهقين من أمثالي و لكنني واثقة من أن اختياره  للرحيل المبكر أمس كان بدافع من حبه للشعر مثلي، هذا الشعر الذي فقده العالم فصار لا يطاق..