النملة ، للأديب الجزائري محمد دحو
رمى حجرا وانصرف.
نظر إلى العبارة أعلاه وتمتمت شفتاه
– ممممم مدخل مناسب لبداية قصة قد تكون جاهزة بعد وقت قصير
شطب الجملة مرتين.
رمى الورقة بحنق وتوتر
– أبيض الورق أو أبيض النساء لا فرق ..
ضحك لسخافة التشبيه إياه واستسلم لشرود مفاجئ.
كان يقوم ويقعد, يقعد ويقوم كما يفعل بيبه ولد امهادي في غرفة الأخبار, فيما ظل أسود الحبر يجري على ظهر ورقته فتكبر البقع السوداء إلى مالا نهاية.
كان الوقت صباحا والشمس مثل كرة ذهبية تلهو في أول السماء. كان معا يشربان الشاي ويسردان تفاصيل مسلية من ذلك الصباح.
– هل تعرف؟
– ماذا؟
– لم تقل شيئا
– قولي ما الأمر؟
ضحكت واسترسلت تقص تفاصيل العمل والبيت, روت قصصا عربية مغرية, وأخرى عن صباحها هي.
تعجب الراوي والشاهد من فتنة شعرها وعيونها, وطريقة سردها لتلك التفاصيل التي أصنعها الآن قصة محكية على الورق.
قال لها:
– أنت امرأة أخرى لاتشبه المستورد من الفتيات والنساء في أوطاننا.
سرها الوصف, وفخ الناقد البنيوي.
لكنها قاطعته فجأة:
– أنت رجل مجامل ومتحامل .
رد بسرعة البرق:
– أبدا , ولكنك صدقا أشطر من تلك الدمى الكثيرة من حولنا.
استفسرت مستمتعة:
– تقصد من ؟
رد متلاعبا:
– لايهم, المعنى في بطن الصحافة.
كان طعم الشاي وصحن الفول واللبنة والحمص، والتركيش كوفيه ملاذ شهية إخبارية يتقاذفها المنتجون والصحفيون في الطابق الأعلى لمبنى قناة الجزيرة. عاود السؤال بخبث نقدي مفضوح:
-أين قصتك القديمة ؟
ردت باستغراب:
– أنت تسخر
– ربما
بغتة تدفقت لغة الكلام :
– تصدق بالله
سكتت كمن يراجع سرا يخشى عليه من الفضيحة
لقد أحسستني نملة صغيرة هذا الصباح, وكدت أبقى في البيت لولا ضرورات العمل, خلتني مثلها تماما صغيرا أتكور في حقل قمح افريقي مترامي الأطراف.
ذرذرت كلماتها في الهواء و ودفعت إليه كأس الماء الذي لم تشربه, كانت مغتبطة الدواخل والأنفاس, كانت تأخذها نشوة الإنتماء لفصيلة النمل، والحيوانات بعيدا عن أولئك البشر هنالك وراء البحر.
قال لها مغررا
– نحن الأفارقة طرف محايد في كآبة لم نصنعها, وثورة لم نردها, وشعارات لم نكتبها.
فجأة عبره وميض وموج تلك الغزوات، ومعارك الأطراف والهوامش في بلاده المنسية.
قال بألم:
– ولكنك حلمي الوحيد، بل أنت كل أحلامي.
فقأت عينيه ولم يأبه
– هل كان سيرمي حجرا وينصرف؟
وتواطأ مع تاريخه القديم والحديث.
– من قال لك ذلك ؟
واشتد غضب الأسطورة في حلقه
– هل كان سيرمي جمالا وبغالا وحميرا ومعادن من ذهب وفضة, حقولا من النفط والغاز و الموز والأناناس, غابات وأسودا وفهودا وقردة ممسوخة.؟
كان يقول :
– الحجر في البركة والبركة تنام على أسرارنا وطفولتنا.
ويضيف السارد:
– لنقدح شرارة قلوبنا قبل أن ننصرف, ولتبدأ الثورة الآن قبل فوات الآوان يا بلادي
وكانت تصرخ من غير أن يسمعها أحد:
– كلكم كذابون أيها ال…..
ثم تغرق في ضحك كان عجيبا وبلا سبب.
كتبت أنا بعد السطر الأول:
– تفيض العبارات, لا شهود للحكاية، ولا شاهد إثبات. فقط شعرها, ابتسامتها , فستانها, وكانت عيناه تذهبان إلى الأقصى فالأقصى, الرغبة تقتلها الوظيفة، والوظيفة تقتلها المحاباة, والمحاباة تصنع الفضيحة والفضيحة تصنعها السياسة, والسياسة داخل النص يصنعها السارد, والحاجة صنعتها الأنثى, والثورة صنعها الاستبداد.
عاود النظر إلى السطر الأول, لم يعثر على الورق, جرى خلف البياض فلم يجد له إلا أسود الأثر وأحمر الدماء والشفاه, تراجع مخيف يكبل يديه وشفتيه.
رمى رأسه في سلة المهملات, وكانت النملة تزحف بداخله, هاهي تسبح في ريقه, تنزل إلى أعماقه, الآن وصلت إلى بطنه ورأسه, وها هي أيها الناس تنتشر في أمعائه كالثورات.