صباح الخير أيتها الجنة
في دمشق وحيثُ أنا الآن، في البناية التي أسكن فيها في الطابقِ الثاني، يُخامرني شعورٌ غريبٌ هذا الصباح وكأننّي أسكنُ ناطحة سحاب، مع أنّ ليس في دمشق كلّها، ناطحةُ سحابٍ واحدة، ومع أنّي لم أعد أرى غيماً كثيراً هذه الأيام في سمائنا، بالكاد شرشفاً متأرجحاً بين الرمادي وبين الأسود، أمّا اللون الأزرق فقد انقرض بعدما أكلتهُ بنادقُ الصّيادين، صيّادي الحياة، لاذ بالفرار، شاهدتهُ آخرَ مرة يركضُ كالمذعورِ بين الدخان.
ومعهُ حق فليس هو الوحيد الذي حزم حقائبهُ وغادر، ففي خضم هذا النزوح الجماعي، نكون غير منصفين إذا لم نستطع أن نلتمس عذراً للأشجار والعصافير وكذلك للانسان.
كيف يمكنك أن تعقد صداقةً مع الموت، ذلك هو السؤال الذي ما برحت دمشقُ تُحاول الإجابةَ عليه كلّ يوم.
كيف يمكنك أن تتآخى مع رصاصةٍ تستوطنُ لحمك أو صوتك أو نظرةَ عينيك وفي أحسن الأحوال تستوطنُ حلمك.
عندما يتهدّمُ كلُّ شيءٍ وترى الدّخان يتصاعدُ في الأنحاء، عندما تصبحُ الشوارعُ ملأى بالحواجز وأكياس الرّمل، عندما تصبحُ أصواتُ المدافع تركضُ أسرعَ من دقّاتِ قلبك، عندما تأتي أخبارُ الموتِ مع الطيور ومع الرّيح ومع حبّاتِ المطر، لن تحتاج إلى صحافةٍ
حرةٍ لتقول لك: إنّ الموت يقتربُ وإنّ السماءَ توشكُ على السقوط.
في دمشق وحيثُ أنا الآن، كما أنّ هناك نبتةٌ سامةٌ اسمها القتل، نبتةٌ عملاقةٌ تُريدُ أن تبتلعَ كلّ شيء، المدن والشوارع والأشجارَ والأطفال، ثمةَ أيضاً شجرةٌ تَنشد الحياة، تعرّشُ على جُدران هذا الوطن، وتُحاولُ دائماً أن تُقنعَ العصافيرَ أن تأتي وتبني أعشاشها بين أغصانها، لهذه الشجرة، شجرةُ الحياة أنا أنتمي ومن أجلِ هذه الشجرة التي تكبر يوماً بعد يومٍ نعاندُ اليأس ونتشبثُ بأهداب هذا الوطن.
هي إذن عينُ الشمس كما سمّاها الإمبراطور الروماني يوليانوس، لكن تلكَ العين التي لم تذرف دموعها كثيراً إلّا فيما ندر، فلديها من الكبرياء والمجد وعزة النّفس، ما يحولُ بينها وبين البُكاء.
في دمشق الحرائق قد تتفاجئون إذا قلتُ لكم إنّ هذه المدينة العظيمة، وبعد كل هذهِ الأشهر من التدريب اليومي على مواجهةِ الموت، أصبحت مدينة محترفة، ولم تعد تؤثّرُ فيها أي رصاصةٍ، على العكس أصبحت قابليّتها للحياة أكثر، وتدرّبت جيداً على التعامل مع كلّ أنواع الوحوش، وأصبحت أكثرَ قدرةً على أن تنظرَ في وجه أيّ رصاصةٍ وتهزُّ رأسها ساخرةً.
دمشقُ هذه المدينة العجائبيّة، وهي التي ليست غرفة ُ نومها تحت الماء، على طريقة فينيسيا، إنّما حياتها كلها ونومها وطعامها ومواعيدُ حبّها بين الدّخان، وعلى أصواتِ القذائف التي تمرُّ في السماء، وغالباً أنّها تمر فوق طاولةِ عاشقين يرتشفان للتو قهوتهما.
لهذهِ المدينة العصيّة على الموت والمحصّنة ضدّ الاندثار والتي تزوجت الأبد والتي هي على قيدِ الحياة منذ آلافِ السنين وبصحةٍ جيدة، ولأنّها مدينةٌ عاشقةٌ والحب هو ذروةُ الحياة وذروةُ الحرية.
كما لا يمكن لقلبٍ عاشقٍ أن يُعتَقل خلفَ قضبانٍ من أيّ نوعٍ كانت، ولا أن تمسحَ ذاكرتهُ وشغفهُ بالغد أيّ سلطةٍ، لا سلطةُ العقل ولا سلطةُ الجنون.
بل على العكس في لحظاتِ الجنون يزدهرُ الحبُّ ويزدهرُ إنجابُ الأطفال.
في دمشق وحيثُ روحي وجسدي الآن، شعرتُ أنّ جسدي ناطحةَ سحابٍ، وقررت فجأةً أن أغلي ركوةَ قهوةٍ كبيرة، وأصعد إلى الطابقِ الأخير وأجلسُ مطلاً على مدينتي التي تهيئ نفسها لنهارٍ جديد لأقول لها صباحُ الخير أيّتها الجنّة.
المصدر : العرب / بقلم ارام شاعر من سوريا