ربيع الشعراء يزهر تحت شعار النعمة في فانف ضواحي باريس

الدورة الخامسة والعشرون لربيع الشعراء في المركز الثقافي ألبير غازييه بفانف

اليوم الأحد الموافق 24 مارس، أقيمت الدورة الخامسة والعشرون لربيع الشعراء في المركز الثقافي ألبير غازييه بفانف، وقدمت لعشاق الشعر بعد ظهر لا يُنسى، مشبع بالتأمل في موضوع النعمة ومُعزز بأداءات موسيقية رائعة.

نظمت الفعالية جمعية ريفز ميديتيرانيين، بقيادة النشطة فاطمة شبيبان ، وجمع هذا الحدث مجموعة من الشعراء من مختلف الأفاق والبلدان، كل منهم يقدم صوته الفريد في الاحتفال بالشعر الفرنكوفوني. كان من بين المشاركين فاطمة شبيبان ، نويل أرنول، ليليان آدم، جويل كونت تايلاسون، فلورانس تايلاسون كونت، إليزابيث دو كورتيفرون، ياسمين دريس، ليلى الماحي، فرانسوا فورنيه، وعدالله هندي، فيكتور هونتوندجي، حنان مرواني، عمار مرياش، إيمان موسى، وسوزان فورنيه، الذين شاركوا أعمالهم وتأملاتهم، مما يكرم غنى وتنوع الشعر المعاصر.

إضافة إلى ذلك، تم تعزيز الأمسية بمشاركة الفنان الموسيقي البارع، صلاح لحسومي، عازف العود، الذي أضاف أبعاداً جديدة للمساء بألحانه الساحرة ومهارته الموسيقية الرائعة. كما أثرى الحدث بمشاركة الفنان “يا تا شي”، مقدماً عروضًا غنائية استثنائية تمزج بين الشعر والموسيقى بطريقة مبدعة ومؤثرة.

تحول المركز الثقافي ألبير غازييه لهذه المناسبة إلى ملتقى حقيقي للإبداع، حيث تدفقت الكلمات بحرية، نسجت بين المشاركين والجمهور رابطًا لا يمكن محوه. كانت التبادلات بين الشعراء وعشاق الأدب الحاضرين مليئة بالعمق والصدق المؤثر، مما جعل هذه الدورة من ربيع الشعراء لحظة استثنائية

لا يمكن أن تكتمل نجاح هذه الفعالية دون الإشارة إلى الاستقبال الحار واللطف من فريق العمل المنظم، الذين تمكنوا من خلق مساحة تستطيع فيها الشعر أن تزدهر بحرية، مؤكدين على دورها الأساسي في الحوار الثقافي المعاصر. استطاعوا بذلك إعادة تأكيد مكانة الشعر والموسيقى كجسور للتواصل الروحي والإنساني.

تركت الدورة الخامسة والعشرون لربيع الشعراء بصمة دائمة في قلوب المشاركين والجمهور، مذكرة الجميع بالقوة التحويلية للشعر والموسيقى. من خلال أصوات هؤلاء الشعراء وألحان صلاح لحسومي، والعروض الغنائية المؤثرة من “يا تا شي”، وجدت النعمة صداها العميق، مضيئة الساحة الثقافية في فانف وما وراءها.

بينما تستمر أصداء هذا البعد الظهر الشعري في الرنين، تنمو بالفعل التوقعات والحماس للإصدار القادم، واعدًا باستكشافات جديدة للجمال والإنسانية من خلال النظرة الفريدة التي يقدمها الشعر والموسيقى.

شذرات من الحياة ، عبد العزيز غرمول

شذرات من الحياة ، عبد العزيز غرمول

~ تعلم الحياة من يريد أن يتعلم فقط، أما أولئك الخاملين على مقاعد مدرستها فهي لا تنتبه لوجودهم حتى يحين وقت الامتحان وحينها تضربهم بقسوة.
~ الذين يتحدثون عنك وراء ظهرك هم وراءك لا داعي لتشغل نفسك بهم وتجعلهم نصب عينيك.
~ امتلاك حاسة السمع لا يعني أنك تسمع، الاستماع فن ومنه جاءت كلمة الاستمتاع… لذلك يفضل الحكماء غلق أفواههم كي لا تفوتهم فرصة المتعة.
~ يقضي أغلب الرجال أوقاتهم في الحديث عن المال والنساء. وهو وقت ضائع في سبيل الحصول عليهما.
~ كثيرا ما أنتبه لنفسي في بعض المجالس وأقول حزينا: ماذا أفعل هنا.. ماذا أفعل هنا!..
~ الأصدقاء مثل الشجر بعضهم مثمر وبعضهم يفيدك بظله.
~ الحياة سلسلة من اللحظات العصيبة والطرق الشائكة، لذلك لا يملك الكثيرون شجاعة كافية لمواجهتها والسير في طرقاتها الوعرة.
~ البحر الهائج لا يمنع الغواصين من اصطياد اللؤلؤ. ولا المتزحلقين من ركوب الأمواج.
~ تعودنا على وصف القلم بالسلاح، ذلك ليس صحيحا، السلاح يقتل أما القلم فيداوي.
– لم أر أجبن من الهارب من الحب، رغم أن الحب أحيانا قاتل…

المهرجان الثقافي الوطني للشعر النسوي بقسنطينة 2024

المهرجان الثقافي الوطني للشعر النسوي بقسنطينة 2024

المهرجان الثقافي الوطني للشعر النسوي بقسنطينة، يستمر في ترسيخ الثقافة والإبداع ،ويخصص دورته لفسطين، ولشعر المقاومة
تستمر هذه الدورة في ترسيخ الثقافة والإبداع، ككل الدورات السابقة الجادة ،من خلال كل ما قُدّم من نصوص شعرية ،وإبداع ثقافي، ومحاضرات أكاديمية تتناول الإبداع النسوي العربي.
سعدتُ كثيرا، لأن هذا المهرجان بقي بقيمته ووهجه، وأصبح قِبلةً للشاعرة الجزائرية، وهي تسعى-دائما-إلى الأجمل والأعمق.
لا يمكننا أن لا نتحدث عن التنظيم المُحكم ،والرقي في التواصل، والاختيار العارف للنصوص التي تابعناها، ونوعية المحاضرات المُقدمة، وجودة كل العروض التي تداولت على المنصة. كل هذا لأن مهندسة ومحافظة المهرجان السيدة أميرة،هي إدارية محنّكة،وإنسانة راقية ،تملك لمستها الثقافية الجادّة ،وأحسنت في اختيار فريقها الجاد: السيدة سهيلة والسيدة سناء مع بقية لجنة التنظيم.
أهنئ كل الشاعرات المشاركات في هذه الدورة، واحدةً واحدةً ،وأعانقهن عناق محبة.
وأوجه تحيتي إلى كل الصديقات والأصدقاء الذين التقيت بهم هذه المرة.
ما أسعدني أكثر هو خروج الشاعرة عائشة جلاب من المستشفى، وحضورها بيننا.
هنيئا لمديرية الثقافة بقسنطينة نجاح هذا الحدث المهم، وهنيئا لقسنطينة العريقة كل هذا الجمال الذي اتشحت به هذه الأيام.
وهنيئا لمحافظة المهرجان السيدة أميرة ثمار جهودها الجبارة.
الدورات القادمة بإذن الله ستحضرها كوكبة أخرى من الشاعرات .

راوية يحياوي

Soirée en musique  avec des poètes d’ici et d’ailleurs

Soirée poétique musicale ce jeudi 22 septembre 2022 a 18h30 au  Gepetto-velo Gallerie First Floor 28 rue des Fossés saint Bernard paris , soirée organisée par Fatima Chbibane Bennaçar avec un grand merci à La peintre Annemarie Laarhuis propriétaire de la Galerie First [loor en plein coeur du quartier latin.

Soirée en musique  avec des poètes d’ici et d’ailleurs

Poètes :
Marie-Odile Bodenheimer
Layla laaroussi
Marie-Eléonore Chartier
Mohamed Lachhab
Claude Plocieniak
Barbara Bordes
Leila El Mellis
Christine Pezzan
Djamila Larbi
Fatima Chbibane Bennaçar
Amar Meriech

Musiciens :
Xavier Barois (flûtes)
Salah Lahsoumi (Luth)

أمسية الموسيقى مع الشعراء من هنا ومن أماكن أخرى

الشعراء:
ماري أوديل بودنهايمر
ليلى العروسي
ماري إليونور شارتييه
محمد لشهب
كلود بلوسينياك
باربرا بورديس
ليلى المليس
كريستين بيزان
جميلة العربي
فاطمة شبيبان بن ناصر
عمار مرياش

الموسيقيون:
كزافييه باروا (مزامير)
صلاح لحسومي (عود)

 

في بطن الريح Dans le ventre du vent

الموت هو الحرق الملهم للجسم المكهرب

تحت ثقله بحيرة دم على امتداد ساقي

وأنا على بطء كل ​​شيء
أشاهد دائما وطويلا هذا المطر
هذا الشق في القار الذي يعض كعبي
وأنا آذيتك
أنا آذيت العالم

عسل الثلوج الميتة تسيل على لسانك

سراب البحر يسمم الحد الأقصى لشكوكنا

في هالة العصر كتابات جداريات أكاذيبنا تعرقلنا وبالفعل نحن نسقط

ومن الحداد أخجل ، وربما أخجل أن ننسى معًا

أحلم والبطن مستديروالروح صماء إلى صوت الموجات الداخلية الأولى

في صدى غياب أولات أحبك تشتعل البنادق

إنه هكذا سقط من الأرض من نكتشف الأم

حياتنا الاصطدام المحتوم
أن يتم ضغط الشرنقة بسرعة تتفكك

خدودنا ترتبط وتتمسك بهذا الكويكب الرطب

لتختفي وتنبعث تجاه لا مسمى

Traduction : Amar Meriech

la mort
c’est elle
l’inspirante brûlure du corps qui s’électrise
sous son poids
un lac de sang
le long de mes jambes
et je regarde toujours et trop longtemps
cette pluie sur la lenteur de tout
cette faille dans le bitume qui me mordille les talons
et j’ai mal à toi
j’ai mal au monde

le miel des neiges mortes
coule sur ta langue
le mirage de la mer
envenime l’extrême limite de nos doutes
dans le halo de l’âge
le graffiti de nos mensonges
nous piège
nous tombons
déjà
et du deuil j’ai honte
honte peut-être
d’oublier
ensemble

Je reve
ventre arrondi
âme assourdie
au son des premières vagues intérieures

dans l’écho de l’absence
des premiers je t’aime
s’embrasent les canons

c’est comme Ça
tombée de la terre
que l’on découvre la mère

nos vies
l’inévitable collision
comme le cocon serré si vitement se défait
nos joues s’associent
s’accrochent
à cet astéroïde humide
pour disparaître et renaître
vers l’innommable

MÉLANIE BÉLIVEAU

مسافات لا تنفصل Inséparables distances

الأصابع مشدودة إلى وحدة التحكم الخاصة بك
أنت تتقدم في السن بسرعة يا بني
لقد وصلت إلى اللوحة الخامسة
لديك ثلاثة أرواح أخرى
في القبو
كثيرا ما تموت

طابقين أعلى
رغوة الحمام تتسرب
على الرجل الغارق
في عرض محيطي

خلف الجدران
التأسفات تسد النوافذ
الحقائق تلعب الغميضة
لكن
خلف الجدران
كبار يتسلقون
أفقيا
أطفال يبنون أنفسهم في علو
قصائد لم يتم التعبير عنها أبدًا تُعاش
عشاق ينبعثون

ضدك
لا اريد الفوز
أنا أفضل أن أرقص

إذا فات الأوان على رقصة التانغو
سنرقص منفردًا في حلبة الأيام
في المراعي للمارة على عجل

عندما سأفقدك في كل شيء
على أمل أن يتحرك إلى الأبد
دون خوف أو ارتعاش بدن
سأقوم بسحب السلم
المخبأة تحت جلدي
وأظهرممتدة للسماء
مغمضة العينين علينا

أدير ظهري للوقت
وأهزّ عظامي أليك
منتظرة

وجها لوجه
ليس مثل حادث
مثل ارادة

Traduction : Amar Meriech

les doigts vissés à ta console
tu vieillis vite mon fils
tu es rendu au cinquième tableau
tu as encore trois vies
dans le sous-sol
tu meurs souvent

deux étages plus haut
de la mousse de bain coule
sur l’homme qui se noie
au large de moi

derrière les murs
des regrets bouchent les fenêtres
des vérités jouent à cache-cache
mais
derrière les murs
des adultes s’escaladent
à l’horizontale
des enfants se construisent
en hauteur
des poèmes jamais articulés se vivent
viens
des amours ressuscitent

contre toi
je ne veux pas gagner
je préfère danser

s’il est trop tard pour un tango
je nous danserai solo dans l’arène des jours
en pâture aux passants pressés

quand je t’aurai tout perdu
à jamais l’espoir de t’ émouvoir
sans peur ni tremblement de corps
je tirerai l’escabeau
caché sous ma peau
et monterai m’étendre dans le ciel
les yeux fermés sur nous

je tourne le dos au temps
et berce mes os jusqu’à toi
en attendant

face à face
pas comme un accident
comme une volonté

de nous voir

MÉLANIË NOËL

الهواري غزالي وللبحر صوت آخر على جسر ريالتو

صدر للشاعر الجزائري الهواري غزالي ديوان شعري جديد بعنوان “وللبحر صوت آخر على جسر ريالتو” بدار الآن ناشرون موزعون بعمان بالأردن. ينقسم الديوان الذي طبع في حوالي 200 صفحة إلى كراسات شعرية مجموعة ومصنفة زمنيا وموضوعيا حسب مراحل مختلفة منذ 1999 إلى غاية 2019.

قدّم الشاعر ديوانه على غير التقليد الذي اعتمده الشعراء في دواوينهم، مستدلا في كون التقديم لا يهدف إلى التشفع بالديوان إلى القارئ بقدر ما هو إعطاء صورة نسقية وزمنية واجتماعية لظروف كتابة الديوان.

وتتراوح القصائد بين تلك التي كتبت في قرية الشاعر بضرابين الواقعة بين تلمسان وسيدي بلعباس والتي عنون مجموعتها بنصوص الزمن البضرابيني، وأخرى كتبت بتلمسان، ثم قصائد أخرى كتبت ببوردو المدينة الفرنسية التي استقر بها الشاعر خلال تحضيره لشهادة الدكتوراه. وتترتب عناوين المجموعات كالاتي: قَصَائدُ أولى لِنِهَايَة القَرْن العشرين وبداية الألفية الثَّالثة، أسْفَارُ سَيِّدَة الأرض، كسل البنفسج، المعلقة الشمالية الأخيرة لامرئ القيس، وللبحر صوت آخر على جسر ريالتو. يقول الهواري غزالي:

“تجتمع، في هذا الديوان، أعمال شعرية كُتبت في فترات زمنية مختلفة تنسحب تقريبا على مدار عشرين سنة، بين 1999 و2019. كانت 1999 بمثابة السنة التي بدأت فيها الجزائر ترى آخر نفق العشرية السَّوداء حيثُ الضَّوء مبتهجٌ والحياة واعدةٌ بالأفراح. مثَّلت تلك الفترة بالنِّسبة لي منعرجا مهمًّا إذ كنت قد رميت عنفوان شبابي مثل باقي أقراني في أتون الجراح والأحزان لا نرجو من هذا العنفوان شيئا سوى أن يبقينا حبلا نتعلَّق فيه بالأمنيات. كان الشِّعر لحظتها في ارتباكه السُّريالي التحاقا بالمأوى اللُّغوي. أسفار سيِّدة الأرض وقصائد أخرى كتبت لتخليد اللاَّمعنى وترتيب اللغة بطريقة أخرى. سمَّيت الأشياء على غير ما تُسمَّى عليه، واتَّخذتُ من الانسان رمزا لوصف مداخل الخراب.”

كما تناول الشاعر الحراك بالجزائر، وهي الأحداث السياسية التي عرفها بلده مؤخرا حيث يطالب الجزائريون بتغيير نظام الحكم جذريا، واعتبره الشاعر بمثابة مرحلة تعرفت فيه الذات الجزائرية على كامل تنوعاتها وثرائها الثقافي والفكري واللغوي، واعتبره بمثابة فرصة للقضاء على العالم السوداوي والمظلم والذي عاناه الجزائريون منذ مدة طويلة. كما بشير إلى أن الكتابة الأدبية ستأخذ منحى جديدا، وهو يقصد في ذلك ربما المنحى النضالي الذي عرفه أيضا الجزائريون في السبعينات من القرن الماضي. يقول:

“وإنَّني وإن كنت كما أسلفت الذِّكر في مطلع هذا التَّقديم بأنَّه لا مناص للشِّعر من السيَّاسة، فإنَّني أرجو أنَّ ما سيُكتبُ ابتداءً من 2019 لن يكون في أكثر الأحوال كما كان يكتبُ من هذا للشِّعر عام 1999 . فلعلَّ الحراك الجزائري السِّلمي يكون بيديه أن يمحي العشريَّات السوداء القابعة فيها قلوبنا قهرا وظلماً وحرمانا.”

إن المقدمة هي مفتاح حقيقي لفهم خلفيات الكتابة لدى الشاعر والتي تنتهج الرؤيا نفسها الموجودة بديوان قلب يحسن التصديق المنشور سنة 2013 ببيروت وديوان أناشيد النبوءات المتوحشة الصادر سنة 2009 بالجزائر.

تتميز كتابة الشاعر بأساليب مختلفة تنوعت بين الواقعية والسريالية والرمزية والغنائية، كما ينحو الشاعر نحو نصوص سردية متوجة بالشعر في آخر المطاف. وهو يحاول بذلك صنع مزيج شعري نثري أو غنائي سردي.

في المعلقة الشمالية الأخيرة لامرئ القيس مثلا، يسرد الهواري غزالي في أكثر من خمس صفحات قصة اكتشاف مخطوطة شعرية باليمن مكتوبة بالخط النبطي، ويفترض الهواري غزالي أن تكون هذه المخطوطة للشاعر الجاهلي امرئ القيس، وقد حدّد ذلك نظرا للأحداث الواردة في المخطوط والتي تتقاطع مع قصة امرئ القيس من حيث وجوده المذكور تاريخيا بالقسطنطينية عندما كان جوستينيان حاكما لبيزنطا آنذاك.

في المخطوطة، يتغزل الشاعر بامرأة تدعى ليلي، تبدو انها غير عربية، وهي امرأة ينمّ وصفها عن شيء من الحزن في نفس امرئ القيس يوحي بأنه يتحسس غربته بألم فظيع. وعلى ما يبدو، فإنه حسب ما جاء في المخطوطة فإنها هي نفسها التي بجانب قبرها دُفن امرؤ القيس. يذكر الهواري غزالي ان الأحداث نفسها واردة في رحلة إلى بلاد الشمال لأحمد بن فضلان، التي يتناول فيها قصة سفره إلى بلاد الفيكينغ. مما لا يدع مجالا للشك في ان يكون احمد بن فضلان قد اطلع ولو نسبيا على المحتوى نفسه الموجود بمخطوطة امرئ القيس ولا يستبعد أن يكون قد سرقها أيضا. هذا الافتراض دفع الشاعر الجزائري إلى تحقيق المخطوطة في شكل قصائد نثرية وعمودية..

يقول في إحدى هذه القصائد المحققة:

قِفَا

سَنُعَلِّقُ أَشْوَاقَ القَصِيدَةِ مَطَراً وَثَلْجاً عَلَى أَبْوِابها فِنْلَنْدَا

الجِبَالُ نُعَلِّقُهَا عَلَى كَتِفِ الصَّحْرَاءِ لِمَسَالِكِ الحُبِّ فِي العُيُونْ

والبُحَيْرَاتُ نُهْدِيهَا لأهْدَابِ الجُنُونْ

قَالَ لِي أَنْتَ لا تَذْكُرُ النُّدْبَ التي نَاءَتْ أحْزَانُهَا فِي كُهُوفِ اليَمَنْ،

وَانْتَشَرَتْ ضَوْءاً قُرْمُزِيًّا بَيْنَ نَبِيذٍ يَسِيحُ وَبَيْنَ عَازِفَاتٍ عَلَى أَوْتَارِ الدِّمَنْ

قُلْتُ اتْرُكْ لِلْبِحَارِ مَوَانِئِي

وَاجْلِسْ سَنُشْعِلُ فِي صَحْرَاء القُطْبِ الأَبْيَضِ أحْلاماً مِنَ الوَرْدِ

وَنُذِيبُ جَلِيدَ القَلْبِ بِزَنْجَبِيلٍ غَارِقٍ فِي البَدَاوَةِ

أوْ نُعِيدُ مِنْ أمْوَاجٍ هَرَبَتْ لِفِتْنَةِ العَاشِقَاتِ عَلَى رِيحٍ مِنْ عَدَنْ

قَالَ لِي: أنَا لا أَكْتُبُ للرِّيحِ مَلْحَمَةً

فَهَذَا الهَوَاءُ بَارِدٌ وَأَنَا فِي يَدَيَّ رَائِحَةُ الرَّمْلِ لا أَكْتَفِي إلاَّ بِها خَطَّا، فَاتْبَعْ مَا شِئْتَ مِنْ خُطُوطِ الثَّلْجِ لَنْ يَتْلُو أشواقكَ إلا ذئبٌ ثلجيٌّ أو فقْمَةٌ في براري العزلةِ

قُلْتُ لا تَكْتَفِي بِالرَّمْلِ وَاحْمِلْ عَاصِفَةَ الثَّلْجِ وانْهَمِرْ فِيهَا كَدَمْعِ عَاشِقٍ حَزِينْ،

سَنَلْقَى مَا نَلْقَى

إبْرِيزاً فِي بَرَاكِينَ مَنْفُوخَةٍ بِالهَوَاءْ

حَجَراً دَلِيلَنَا فِي مَفَازَاتِ الإمَارَةِ

أوْ شَمْسًا فِي غَيَابَاتِ العُيُونْ

سَنَلْقَى مَا نَلْقَى

فَلا تَبْكِ عَيْنُكَ إنَّما

نُصِيبُ مُلْكاً أوْ نَمُوتَ فَنُعْذَراَ

قَالَ لِي:

هِيَ الخِيَامُ لا تَكْفِي

وَهَذِي الثَّعَالِبُ القُطْبيَّةُ لَحْمُهَا مُرٌّ

وَأنَا فِي شَوْقٍ إلى أحْلامِ الغَزالْ

إلى مِسْكٍ يَفِرُّ مِنْ خِصْرٍ عَرَبيٍّ نَحْوَ أطْرَافِ الجَفْنَةِ

وَنَحْوَ بَعْضٍ مِنْ أطْوَاقِ الخِيَامْ

وَهَذِي البُحَيْرَاتُ جَامِدَةٌ وَأَنَا فِي بِرْكَةِ العِشْقِ العَرَبِيِّ

سَابِحٌ فِي بَهْجَةٍ مِنَ العَذْرَاء التِّي تَجْرَحُ فِي عُيُونِي الكَلامْ،

فِتْنَةُ النَّارِ التِّي أوْقَدَتْهَا الصَّحَارَى فَلا انْطِفَاءَ لَهَا إلَّا بَعْدَ أنْ يَمُرَّ غَزَالُ المُدَامِ

يقفزُ بين أكْوابِ السِّهامْ

قلتُ أنتَ لا تَرَى إلاَّ بِعُيُونِ المِسْكِ

وَالسَّوْدَاءُ فِيهَا مِنْ شَوْقِنَا مَا فِي سَوَادِ اللَّيْلِ مِنْ هُيْامْ

والسُّمْرَةُ لا يَعْلُو فَوْقَها ثَلْجٌ

أرأَيْتَ إنْ غَطَّى الثَّلجُ أرضاً

ذوَّبَتْهُ جَمَرَاتُ اللَّيلِ

وانْحِدَارَاتُ الظَّلامْ

لكنْ تأمَّلْ

لِيلِي

لهَا عُنُقٌ

عَمُود رخامٍ روميٍّ

وَلَهَا فِيهِ مَا يخطفُ الرُّوحَ منْ أبْرَاجِ الحَمَامْ

جَسَدٌ نابضٌ بالشَّوْق

وَلَهَا فِي الجُفُونِ غَيْمَةٌ

وَلَها فِي القَلْبِ انْكِسَارُ الجِبَالِ وَأَحْزَانُ القِمَمْ

إنْ مَشَتْ تَكَسَّرَتْ تَحْتَ قَدَمَيْهَا سَمَاءْ

كَأنَّما لَيْسَ مَا تَرْتَدِيهِ مِنْ كَسَلٍ سِوَى كُتْلَةٍ مِنْ ضَبَابِ الشَّمَال

وَقِطْعَةٍ مِنْ صُوفِ الغَمَامْ

جدير بالذكر أن الشاعر الجزائري مختص في تحقيق الدواوين الشعرية القديمة، فلقد صدر له تحقيق لديوان للشاعر الأندلسي ابن أرفع رأس، وتحقيق آخر لديوان ابن عربي. ولعل لهذه التجربة العلمية الأكاديمية انعكاسا ما على تجربته الشعرية.

الطيب ولد لعروسي.

تهشيم المركز: شعرية الهوامش في تجربة آمال رقايق

امال رقايق ـ البزة الهاربة من بزة الجنرال

تحطيم المركز واعلاء الهامش

نحا النزوع التجريبي والتمرد على القوالب الجاهزة بالشعراء المعاصرين، منحى تصاعديا، فلم تكتف الحساسية الشعرية الجديدة، بالثورة على القوالب الشكلية، وعلى نظام القصيدة القديمة، بل أعلنت عداءها لكل مركزية، مؤكدة انتماءها للمهمل والهامشي، وجاءت هذه الموجة كرد فعل على القداسة التي اكتستها القصيدة العربية في أشكالها، قبل أن تتحطم أمام مد النصوص النثرية التي لا جنس لها.
ومثل حضور الهامشي ملمحا بارزا لدى الكثير من الشعراء، وقد تلبس النصوص بشكل شعري جمالي، لم يسقط في الشعارات، إذ أخذ شكل تيمات، تقوم على فلسفة الهامشي محاولة تحطيم السلطة الذكورية تارة، وتارة في شكل إعلان عن الانتماء إلى الهامشي كما هو في نصوص آمال رقايق التي تضمنتها مجموعتها الشعرية ” الزر الهارب من بزة الجنرال الصادرة عن دار نقطة.

بيان الانتماء : قداسة الهامش

يتجلى الهامشي بشكل واضح في نصوص الشاعرة الجزائرية آمال رقايق، اذ يصبح مركزا، يعلن عن ذاته بداء من عتبة العنوان” الزر الهارب من بزة الجنرال”، إذ يمثل العنوان أولى العتبات التي تشي بالهروب والفرار من كل سلطة أو مركز، فالعنوان يضمر، فيما يحذفه أننا بصدد الاطلاع على حكاية الزر الذي هرب من بزة الجنرال.
ويحيل الزر إلى الشيء الهامشي، وعلى هامشيته الا أنه يرفض البقاء في بزة الجنرال المدججة بالنياشين، وما يؤكد هذا الفرضية هو ما يطالعنا به الإهداء التالي الذي جاء في الصفحة الأولى:

” للأكورديون المهمل
للبحيرة
لابريل للمثلث المحرج بزاويته القائمة
لحلم طائش يرتعش في صندوق البريد”

ففي عتبة الإهداء يتضح هذا النفور من المركزيات، فالإهداء يعلن تضامنه مع آلة الأكورديون التي لا يستعملها أحد، ومع البحيرة نكاية في البحر، ومع شهر افريل ذي السمعة السيئة، ومع الأحلام الطائشة، التي ترتعش في صندوق البريد، دون أن يربت عليها أحد.
ويقدم لنا النص الذي حمل عنون “Cv وما أهمل كلاوديو بوتساني” سيرة شعرية للشاعرة، ولما تنتصر إليه من أشياء الهامش حين تصرخ

« أنا شلال موقوف
انا مرج قاحل يحلم بقطرة ندى تؤنس
عشبته الوحيدة
أنا زقاق بين غيمتين جائعتين
قريصات متسخة في مقلمة الراسب

وهي ايضا في بقية النص لا تخرج عما اختارته من وقوف في صف المنبوذين فهي الدم الصاعد لوجه المراهق، والثقب في جورب المحتال والقريصات المتسخة في مقلبة الراسب وهي :

الثقب في جورب المحتال، الدم الذي يهبط مع الجنين، جبل مقلوب تؤلمه قمته، انا التلميذ الذي يكره المربية، الضيف الذي يبزغ في يوم، عائلي مدقع، والعاشقان المنهكان في يوم قائض البدوي المحرج أما نادل مثقف، انا ركلة الجزاء المصيرية ، انا مأزق الخادمة
الخاتم الرديء في يد اربيعنية شبقة !

بل هي ايضا :

“مدينة نائمة في خط زلزالي، الوريث المعاق ذهنيا ، شجرة البرتقال العقيمة في بستان النخيل أنا نصف دينار جزائريالجرة الفاخرة التي بلا ذراع، السن الاصلي الوحيد في طقم السبعينية، الطرق القوي على باب مغلق خلفجسدين ملتحمين، الكنز المخبأ تحت بيت الفقيرانا غراب في سرب حمام، الصوت الناشز في معزوفة رسمية، حارس المدرسة المصاب بالزهايمر، والأخت التي ترفض التوقيع على ورقة البيع، انا الضبية المغرمة بذئب، الجنازة في يوم عاصفة، النجم الذي تنكرت له الجماهير »

رغم اتصافها بالأشياء الهامشية إلاأنها تشع بالاختلاف والتمايز، ورغم ما يبدومن تواضع أو ما يوهم بالتواضع في هذه اللواحات،إلا ان تصديرها بالأنا، يجعلنا نرتابفي التذمر من سوء الحظ، إلاأن الأمرأعمق مما يبدو عليه هذا النص.
وهوما تؤكده نصوص أخرى حيث نجد في ثاني نصوص هذه المجموعة(التي تصدرها إهداء ينتصر للهامش ثم سيرة هامشية) يطالعنا نص بعنوان ّ”اريتيريا”وهذا التقديم والبداية ضمن توزيع النصوص يحمل دلالة الانتصار للهامشي والنزوع اليها لدى آمال ، وهو ما يجعلها تركز على الهامشي والمهمل لجعله مركزا لجملتها الشعرية.
فضمن ثلاثة عشر مقطعا شعريا تحضر “ارتيريا” في صورة مدينة مقدسة بغديرها الغضوأطفالها الغامقين رغم شحوب “مدنفرا”:
فهي تستهل نصها بمخاطبة ارتيريا :

«ارتيريا
اصدميني بالغدير الغض
وعلقينيمع شحوب مدنفرا
في صميم السحب ،
انحتيني مئذنة وصليبا
في جبين اللهب ..

وإذا كانت هذه الإحالات السابقة في مجموعة أمال رقايق تحيل إلى الهامش وتحتفي به، بشكل واضح، فإن هذا النزوع يتضح أكثر في نص ببساطة الحب ووعورة القلب ” الذي يمثل بيانا في الانتصار للهامشي بدون مواربة أو تخفٍّ، فهو اعلان حب ينفتح على عوالم رقايق الشعرية التي تنفر من المركزيات المنتفخة بلا طائل، وتعلن ولاءها لكل ما هو بسيط ومهمل ولا قيمة له:

«أحب الدودة المتعثرة في تربة مبللة
والزهرة العالقة على حافة عالية
والشجرة الهرمة المنسية في عمق الغابة ..أحب الطفل الذي يسأل: لماذا لا يحبني أحد؟

كما انها تحب “والرجل المهمل والمرأة التي تنتظر بشعرات بيضاء حبيبا اسمر أو ابيض أو غير مرئي..، و”الحشرة العالقة بين عشبتين، والديمة التائهة والنجمة التي نراها” و”الجرم اليتيم وحبة القمح التي تحت الثلاجة..” وحتى “الجرو الذي يحلم بكيس قمامة والهرة الانانية مكسورة الساق..
ويمتد شغفها بالاشياء التي لا قيمة لها ليدفعها لتعلن :

“أحب الكتب التي لم يقرأها الا صاحبها والفنان الذي ترفضه المسارح
والغبي الذي لا يستطيع أن ينجو من المدرسة..
أحب القبيح الذي يعشق فاتنة الشارع الخلفي
والفقمة التي سيأكلها الدب بعد لحظات..
أحب السمكة التي تدخل تلقائيا في جوف الحوت
والفراشة التي مسح جناحاها بأصابع طفل فضولي
أحب الرجل الذي لا يملك الجرأة ليعبر عن أسفه
والهرمين الذين لا فرصة لهم لتصحيح مسودات
حياتهم
أحب وأحب..وأحب»

إن هذا البيان الذي يلعن تعاطفه مع الكائنات المهمشة يمثل الخط العام الذي تنحو اليه فلسفة الهامشي التي تعلي من قيمة الاشياء المهملة لتجعلها في صدارة الاهتمام، نكاية في كل مركزية.
وتستمر نصوص هذه المجموعة في الاحتفاء بالمهمل والمنبوذ مراهنة على الساقطات والبضائع الرخيصة وحتى الأوبئة، موجهة صرختها، وهي تخرج لسانها سخرية في وجه العالم

«أراهن على الساقطات بعد الآن
كما كنت افعل أيام زهوي الأولى
أراهن على أحجار الماء
على البضاعة الرخيصة
الأوبئة أيضا لها في حقيبة يدي متسع وصديق»

هوامش:

1. أمال رقايق، الزر الهارب من بزة الجنرال، دار نقطة للنشر والتوزيع،الجزائر،2015، ص 5
2. آمال رقايق،الزر الهارب من بزة الجنرال، ص8/9/10.
3. امال رقايق، الزر الهارب من بزة الجنرال، ص 12.
4. المصدر نفسه، ص17
5. ص 19.
6. امال رقايق، الزر الهارب من بزة الجنرال، ص26/27
7. المرجع نفسه،ص33
8. ص 37
9. ص43
10. ص44
11. أمال رقايق، الزر الهارب..ص51

ومضات وثائقية : حنين إلى زمن ولى لمحمد زاوي

ومضات وثائقية : حنين إلى زمن ولى لمحمد زاوي

لقد إخترت الديباجة الصفراء لورق قديم وثمين على هذه اللحظات التي صورتها في مناسبات مختلفة في زنينة مسقط رأسي وقبر أمي . صور على ورق أصفر مثل الحلم الذي تمتثل فيه الذاكرة في عالم هاديء، ليس فيه للكراهية من مكان . لهذه الصورعلاقة بالنص الذي كتبته في عام 2010بالجزائر نيوز . لقد عاد بي الحنين إلى زنينة . إلى بعض هذه الوجوه ، ومنها التي ستشاهدونها في هذا الفيديو عبر سفريات مختلفة للقرية .

هل تعرفون يا أصدقائي بأن زنينة لم تفبرك إرهابيا واحدا في سنوات لادم والدمار . كانت زنينة محمية بتاريخها وثقافتها وهي جديرة بالدراسة للدارسين في علم الإجتماع والعلوم السياسية . لقد إستوقتني تلك الأيام التي كان فيها كل يوم أربعاء قرية، بكاملها تنتظر إطلالة شاحنة ”البيرلي” على هضبتنا المنسية زنينة، فهذه القرية تبعد بحوالي50 كلم على آفلو و70 كلم على الجلفة. نعم ما زال صوت زفير الشاحنة في ذاكرتي، حينما كنا نرى هذه الشاحنة و سراب دخانها من بعيد، ودوي صوتها، ينبعث على وجهي ووجوه أبناء القرية المجتمعون أمام مقر البريد فرح لا مثيل له. وهذا الفرح يتجدد أسبوعيا مع هذه الشاحنة التي تأتينا بأخبار شتى وبرسائل مختلفة، ومن بينها خطب يوم الجمعة لوالدي إمام بوزارة الشؤون الدينية. تأتي الشاحنة معبأة بالمواد الأولية على طريق غير معبد، شاحنة تحافظ على تواصلنا مع العالم مع المدينة فهي رابطنا الرئيسي معها.. من تلك النافذة الصغيرة لمبنى ”البوستة” البريد القديم المصنوع بنايته من الطوب، كان يقف العون البريدي لينادي أسماء أصحاب الرسائل وفي هذا اليوم تشهد القرية سوقها الأسبوعية، اليوم الذي يظهر فيه البراح وأطباء الأعشاب وقالعي الأسنان ومعالجي عقم الرجال، أجيء مبكرا إلى السوق وأجلس على الأرض مع فلاحي البوادي لمشاهدة فرجة مجانية ينشطها حكواتيون محترفون يعرفون كيف يجذبون الفلاحين الفقراء والسكان المعوزين إلى فرجتهم في حلقة تتجدد أسبوعيا يعزف فيها الراوي على الرباب أو تروى ملحمة بكاملها على أنغام وإيقاعات القصبة الصحراوية، وحينما يصل الحكواتي إلى عقدة الحكاية يقرع بنديره ويبسطه على الأرض ولا تسمع إلا قراعات النقود التي تدخل جلد البندير لكي يوصل الراوي أو القوال الحكاية والحقيقة أن المشاهدين لأعمالي المسرحية التي كتبتها أو قرأ بعضكم نصوصها سواء في نص ”الثلث الخالي” أو في نص ”مرثية لوطني” يلاحظون إستخدامي لهذا التراث، فهؤلاء الرواة أو القوالين كانوا يخاطبون وجداني، بينما كانت تظهر لي حكايات مالك وزينة المدرسية بعيدة كثيرا عن واقعي.. للحلقات الفنية في الأسواق التي ينشطها فنانون تروبادور ولحلقات ”طلبة زاوية جدي الشيخ سي عبد القادر” التي تخرج منها أصوات دافئة في قراءة البردة وألفية إبن مالك لها وقعها الخاص في حياتي الإنسانية والإعلامية. فهي فضاءات ما زالت تسكنني، ولذلك أجد نفسي أرفض بديلا آخر للإيقاعات التي تظهر بين الحين والآخر، فأنا مازلت مسكونا بماض جميل، أنا رجل ماضوي، من ماض فقير جدا لكنه نظيف، وهذا النقاء الروحي الذي كان يرافق ”الإخوان” الذين يزورون جدي الشيخ سي عبد القادر لم يعد أو تراجع كثيرا، وخاصة تلك الصورة القوية التي تأتي فيها القبائل لزيارة الشيخ، يأتون بدفوفهم وأصواتهم التي تهز أرض القرية وهم يشدون على بعضهم البعض. في كل تناغم وفي إيقاع ليس له مثيل. للأسف لقد كسروا كل هذه التقاليد. القنوات الفضائية والإرهاب، والحركة الإسلامية التي إستوطنت البلاد قضت على ثقافة الخيمة ورحلت سكان الخيم إلى المدن بالترهيب. لن أنسى تلك الرقصات الصوفية التي كانت تؤديها والدتي وفي النهاية تسقط على الأرض فيأتونها بالعطر لتستفيق وتخرج من العالم الآخر. هذه الصورة رحلت مع والدتي -رحمها الله. لم يدخل التلفزيون بيتنا إلا بداية السبعينيات، كان والدي من الأوائل في القرية الذين يشترون تلفازا، وقد اشترك مع بعض الجيران واشتروا محركا كهربائيا صوته أقوى من صوت الجرار . لقد كنت سعيدا أولا لأنني أستطيع أن أشاهد العالم من خلال التلفاز ثم لأنني سأتخلى عن الشمع الذي كنت أتابع به دروسي. كان والدي يحشد عددا كبيرا من الطلبة في الزاوية لرفع عمود إلتقاط الصور، لأن البث في القرية كان ضعيفا، كان تحديا كبيرا عند والدي أن نتابع أخبار هذه النافذة. . وقد رحلنا والدنا من بيتنا القديم في الجنوب لنسكن بيتا جديدا في الشمال فقط من أجل أن نلتقط صورا نظيفة غير مشوشة. كان سني لا يتجاوز سنالحادية عشرة سنة حينما إشترى لنا الوالد تلفازا، وقد صادف أن شاهدنا صور أرمسترونغ أول إنسان تطأ قدماه القمر ولم يصدق حينها الكثير من سكان القرية هذه الرحلة بل رأى فيها الكثير بدعة وعلامة من علامات قيام الساعة. لقد تعودت رجلي المشي على تراب وحجر القرية حافيا… لم أكن الطفل الوحيد الحافي القدمين، كنا نفضل أن نمشي بهذه الطريقة وكنا نشعر بارتياح خاص . حينما لا ننتعل أحذية على خلاف الكبار أو على سكان البوادي الذين كانوا يضعون قطعا من المطاط الطبيعي ويحزمونها بخيوط على أرجلهم ويغلفونها بإطار داخلي لعجلات السيارات ”الشامبراير . وأنا الطفل الصغير كنت أقضي جل أوقاتي في الدكاكين، أجلس على خيش السميد والكراتين في حوانيت وأستمع إلى حكايات الناس وأقضي وقتا كبيرا. أيضا عند سكرتير قسمة جبهة التحرير الوطني سي حفيظ، لأنه كان يسمح لي باستخدام الآلة الراقنة لكنني حينما أسمع إلى صوت غايطة الشولي يتغير كل وجهي وأذهب في البحث عن هذه الحالة الاستثنائية. أذهب في البحث عن رقص الخيل وبارود الخيالة . مازالت تلك الأيام التي عشتها تشكل مادة خام لتشكيل الكثير من القصص الجميلة والأعمال المسرحية وتؤثر في كتابتي من ذلك العالم السحري الذي تجوب فيه بنت ثامر بيوتا عديدة في القرية وتعرض عليهم كل أنواع الفساتين الزاهية إلى رقصات الشمع على جدار بيتنا إلى تلك اللحظات مع وقت المغرب لنصطاد الخفافيش بالقصب . هذه الليلة ، أنا أشعر بوحدة فظيعة وبالكثير من الإشتياق إلى أجمل قرية مقدسة عندي زنينة المسماة باريس

يا علي باعوها يا علي، في الحراك، الجزائريون يشتكون سلطتهم للشهداء

يحتل اسم علي مكانة خاصة في المخيلة الشعبية الجزائرية، ربما لأسباب تاريخية أهمها تأسس الدولة الفاطمية بالجزائر وبقائها بها لمدة قرن، بدليل أن الجزائريين هم الوحيدون من دون كل الدول العربية الأخرى التي قرنت اسم علي بلفظة “سيد” فسموا أبناءهم “سيد علي”.
واقترن اسم “سيد علي” لدى الجزائريين، إلى وقت غير متقدم، بالإسلام والتضحية في سبيله، وبمقاومة الكفر وحسن البلاء فيه، فكان من أمثلتهم التي تضرب لمن يبلي بلاء حسنا ضد العدو قولهم: دار فيهم ما دار سيد علي في الكفار”. ومن بين الحكايات الشعبية التي كانت الجدات ترويها لأحفادها حكاية “سيد علي ورأس الغول”، وهي حكاية مثلتها صورة رسم لا يكاد يوجد بالجزائر بيت يخلو منها.
لكن اسم علي سيأخذ بعدا آخر لدى الجزائريين، خاصة سكان مدينة الجزائر العاصمة أو كما يسميها أهلها منذ القديم “دزاير”، لا يرتبط بالحكاية الشعبية تضخيمات المخيال الشعبي لها، بل بالثورة الجزائرية، من خلال شخص الشهيد “علي عمار” المدعو “علي لابوانت” نسبة إلى مكان بالساحل العاصمي يسمى “لا بوانت بيسكاد”. هذا الشهيد الذي قضى نحبه رفقة الشهداء “حسيبة بن بوعلي وبوحاميدي والطفل عمر ياسف”.
كان لفيلم “معركة الجزائر” للمخرج الإيطالي “جيلو بونتيكورفو” وسيناريو وإنتاج المجاهد “ياسف سعدي” الذي كان مسؤولا على علي لابوانت إبان معركة الجزائر، دورا كبيرا رسم صورة “علي لابوانت” في المخيلة الجزائرية. شاب في ريعان الشباب من الطبقة المسحوقة إبان الاحتلال الفرنسي، يترك محيط العصابات والنساء والقمار، وينظم إلى صفوف جبهة التحرير الوطني وعناصر معركة الجزائر، وحين تسقط خلية الجزائر العاصمة الواحد تلو الآخر، يبقى علي لابوانت في القصبة، رفقة “حسيبة بن بوعلي وبوحاميدي والطفل عمر ياسف”، ويحاول بعث الخلية من جديد لاستمرار المعركة، إلا أن قوات الاحتلال الفرنسي تعرف مخبأه في إحدى بيوت القصبة ويحاصرونه، ويطلبون منه ومن رفاقه الاستسلام، لكنه يرفض ويفضل أن يموت رفقة الثلاثة الذين معه، فيجفر البيت عليه، ويتحول علي لابوانت في مخيلة الجزائريين إلى رمز للبطولة التضحية وعدم الاستسلام.
بعدها بسنوات يخرج لخضر حامينه فيلم “الأفيون والعصا”، وقد تكون الصدفة أو ربما اختيار صاحب السيناريو أن يكون البطل اسمه “علي” المجاهد الذي يبلي بلاء عظيما ضد عسكر الاحتلال الفرنسي في جبال منطقة القبائل، ولكن في النهاية يقبض عليه ويوثق في ساحة القرية وقبل أن يطلق عليه الرصاص أمام زوجته وأمه وأهل القرية، يرمي قائد العسكر الفرنسيين علبة سجائر ويطلب منه التقاطها من الأرض تحت طائلة التهديد، لكن أحد رفقائه المقبوض عليه معه يصرخ فيه “يا علي ما ترفدش، موت واقف”. ومن يومها أصبحت عبارة “يا علي موت واقف” على كل لسان ويستعملها الجزائريون في كل سياق يدل على الأنفة والمقاومة ورفض الخنوع.
بعد أحداث الخامس أكتوبر 1988 التي كان معظمها بالجزائر العاصمة، وموقف السلطة منها ووصم الشباب الذي انتفض بالفوضى والتخريب، ظهرت في ملاعب كرة القدم أغنية استمرت لسنوات معدودة جمعت ثلاث شخصيات باسم علي. تقول الأغنية:

علي لابوانت في الثوره
وعلي بن شيخ في الكوره
وعلي بلحاج في الدين
واحنا اولاد العاصمه
ماناش مخربين

الأغنية كانت تغنى في المدرجات على إيقاع أغنية رابح درياسة “يحياو اولاد بلادي ويحياو بنات بلاد وشنانه في الحساد… واحنا اولاد الجزاير… خاوه في كل بلاد”. وإذا كانت أغنية رابح درياسه أغنية تحت طلب السلطة لتحريك الشعور الوطني لدى الجزائريين، تنحو منحى البروغاندا المقنعة، فإن أغنية شباب العاصمة في الملعب كانت رسالة من هؤلاء إلى السلطة لتحديد هويتهم ومن هم.
وقد التفتت مجلة “الوحدة الرياضي” ملحق شهري بأسبوعية “الوحدة” لسان حال الاتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية إلى هذه الأغنية وتساءلت “ما الذي يجمع هذه الأسماء الثلاثة في أغنية رياضية يرفعها أولاد الجزائر العاصمة في الملاعب؟
في تلك الأثناء كان الملعب كما اليوم الفضاء الهامشي ولكن في الوقت نفسه الرحب والحر للتعبير في مواجهة فضاء المركز المراقب والمقموع من طرف سلطة، وكانت الشخصيات الثلاثة كلها شخصيات شعبية محرومة عملت السلطة بطريقة أو بأخرى على طمسها، فعلي لابوانت لم يحظ اسمه بما حظي به اسم مجاهدين آخرين بقوا على قيد الحياة، وكذلك “علي بن شيخ” الذي عانى التهميش في الفريق الوطني، خاصة حين تأهل المنتخب إلى نهائي كأس العالم بإسبانيا، رغم إمكانياته الكبيرة. والأمر نفسه بالنسبة إلى علي بلحاج الذي كان رمزا لشباب الصحوة الإسلامية، وضحية للسلطة التي اعتقلته وسجنته.
على مر عدة سنوات شكل اسم “علي” رمزا للمقاومة والتضحية ضد السلطة. وإذا كان قد رفع، خلال هذا الحراك، فلاعتبارات عدة أعادته إلى واجهة المخيلة الشعبية.
لعل أول ما استدعى اسم علي، خلال هذا الحراك، هو قرار قائد أركان الجيش الفريق قايد صالح غلق أبواب العاصمة في وجه المتظاهرين من ولايات أخرى، هذا القرار الذي استفز الجزائريين بصفة عامة وأبناء العاصمة بصفة خاصة، فتحولت العاصمة إلى حلبة صراع بين الحراك والسلطة، وتحول يوم تلك الجمعة إلى “معركة الجزائر”، حتى أن الصحف والمواقع الإخبارية كتب في اليوم السابق له “امتحان معركة الجزائر” التي انتصر في الحراك.
وبطبيعة الحال، استدعت معركة الجزائر بطلها، ولدى الجزائريين بطل معركة الجزائر ليس “ياسف سعدي” ولا غيره من المسؤولين الكبار في الثورة، بل هو علي لابوانت. ومن الطبيعي أن الجزائري اليوم حين يريد أن يستنطق تاريخ الثورة ويشكو لشهدائها الذين ضحوا بأنفسهم من أجل استقلال الجزائر، فإنه يشكو مآلات الاستقلال إلى “علي لابوانت” ويصرخ “يا علي… باعوها يا علي”.
مهدي براشد

الخير شوار يكتشف أرض الله

الخير شوار - ارض الله

من تأليف الروائ والصحفي الخير شوار و عن مكتبة فنك للكتب صدر كتاب ارض الله في 124 صفحة من الحجم الصغير
يتضمن الكتاب تقديما من قبل نصر الدين العياضي الذي يعتبر الخير شوار صحفيا استقصاءيا يتحرى الميدان ويرفض مفهوم الصحافة الجالسة التي تمارس عبر المكاتب فهو مبدع في  فن الروبورتاج هذا النوع الصحفي الذي يعد جوهر فنيات التحرير 
يتجلي هذا الحس في صدور هذا الكتاب الذي يضم مجموعة من الروبرتاجات التي هي عبارة عن رحلات الى باتنة خنشلة تندوف عنابة وبعض أحياء العاصمية بلكور ورياض الفتح وحمهم الوان اما عن روبورتاجته عبر العالم فقد اختار لبنان
انها فعلا جوالات ممتعة يسافر فيها بك الكاتب عبر الزمن حيث يستخضر التاريخ والمجتمع والثقافة 
ويتوقف في الأمكنة الجزائرية ليستطرد ما الحقته سنين الإرهاب من دمار وخراب بالمنطقة ويصف اثارها ، وكذلك فيما يخص لبنان التي عانت كثيرا من جراء الحرب الأهلية حيث اغتيل فيها كل ماهو جميل من ماثر تاريخية وفنية ولعل هذا ما بفسر اختيار الكاتب لمدن بيروت وصيدا وطرابلس
وفي كل مكان يستشهد باسم كاتب او اسم ما معروف يمثل المنطقة كحديثه عن حي بلكور المسمى اليوم حي بلوزداد حيث ذكر البير كامو وزار المنزل الذي كان يقطنه البير كامو و الذي يزوره العديد من  المهتمين
وما يثير الانتباه في الكتاب اشارته الى احتفال نساء تندوف بطلاقهن رغم تشدد العادات والتقاليد ، هذا الإحتفال الذي تعتنقه النساء الغربيات اليوم
لقد اعتقدت قبل قراءة هذا الكتاب ان له علاقة قوية بالدين وذلك من خلال اعنوانه ارض الله ، ولكن لا، فالكتاب عبارة عن روبورتاجات حول مدن جزائرية ولبنانية بصفة خاصة
أخيرا كم كان سيكون شيقا لو ان الروبوتاجات ارفقت بصور للمدن التي يتحدث عنها الكاتب 
 

البؤساء يعودون الى مونفرماي

les-miserables

يروي فيلم البؤساء قصة الشرطي المدعو ستفان القادم من مدينة شاربوق الذي التحق بشرطة فرقة مكافحة الاجرام ضاحية مونفرماي حيث يشتغل مع زميلين ذوي خبرة ميدانية بالحي ويتلقى تدريبا قاسيا من قبل هذين الشرطيين حيث يجبرانه على التعامل مع سكان المنطقة بأساليب عنيفة لردع وقمع الشباب المراهق لهذا الحي.
وخلال دورية الشرطة يبقى ستفان جالسا في المقعد الخلفي للسيارة صامتا يكتفي بالتأمل وملاحظة الأشياء.
تتأزم العلاقة بين مراهقي منتفرماي والشرطة الى حين أن تنفجر واقعة اقلبت أجواء المنطقة.
قام أحد المراهقين المسمى إيسى بسرقة شبل من سيرك اهل الغجر فهددت هذه الجماعة بإعلان الحرب والدمار في حالة عدم استرجاع الشبل.
تقوم الشرطة بالتحقيق والعثور على السارق المراهق إيسى الذي ابى الاعتراف وتسليم الشبل فينهال عليه ضابط الشرطة كريس شتما وضربا مبرحا مما يثير غضب شباب وسكان الحي الذين تضامنوا معه ودخلوا في صراع حاد مع البوليس.
اخمادا لهذه المعركة قام الشرطي قوادا بإطلاق النار قصد تفريقهم فأصاب المراهق إيسى بجروح عميقة في وجهه.
خوفا على مصيرهم من المخالفة التي ارتكبوها يرفض كريس احضار الإسعاف لإنقاذ الضحية.
في نفس الوقت كان هناك مراهق اخر اسمه حسان يتواجد فوق سطح العمارة وصور جميع وقائع الحدث بواسطة دروم مراقبة عن بعد وإذا بضابط الشرطة يكشف حقيقة الامر فيقوم بمطاردة الحسان للحصول على شريط الصور. فهرب الحسان متجها الى مطعم صلاح وسلمه الفيديو علما ان صلاح ذو سوابق عدلية وبعد خروجه من السجن أصبح من الإسلاميين المتشددين ، وفي هذا المطعم يجتمع الاخوة المسلمين الرادكالين لسكان المنطقة.

يلتحق الشرطي ستفان بزملائه بعدما اشترى ادوية لعلاج إيسى.
يطالب ضابط الشرطة كريس صلاح بمنحه الفيديو وهو يخاطبه بلغة جد عنيفة فيتكهرب الجو بينهما ويرفض صلاح إعطائه الشريط ويفضل التحدث والتفاوض مع الشرطي ستفان الذي يعامل السكان بطريقة مهذبة حيث اقنع صلاح بتسليمه الشريط.
وسرعان ما انتشر الخبر في أوساط الحي انتفض الشباب المراهق انتقاما الى صديقهم إيسى حيث قاموا بأحداث شغب وأحرقوا سيارة الشرطة. قامت الشرطة بمطاردة شباب الحي الذين فروا إلى عمارتهم المهدمة التي لا شيء فيها يشتغل ، المصاعد معطلة، الأضواء مطفأة والجدران منهارة. واشتدت المواجهات بينهما حيث تجد الشرطة نفسها في وضعية معقدة، يبحثون فقط على مخرج لهم للفرار من هول العمارة.
ينتهي الفيلم بالمواجهة وجها لوجه بين المراهق إيسى الذي حمل مشعل من النار والشرطي ستفان الذي يحمل سلاحا لكنه رفض إطلاق النار عليه وفضل التحاور معه حتى أقنعه برمي المشعل.
الفيلم مشحون بالعنصرية القاتمة إزاء المغتربين حيث يجسد علاقات الصراع بين سكان الحي والشرطة هؤلاء السكان الذين في غالبيتهم يتكونون من الأفارقة والغجر والإسلاميين المتشددين.
تبقى منتفرماي مجرد صورة لضاحية تعبر عما يجري من أحداث شغب في الضواحي البارسية حيث يتعرض شباب الاحياء إلى معاملة قاسية وعنيفة من قبل بعض الشرطة العنصرية حيث يردون عليهم بالمثل وبنفس اسلوب العنف.
تبدو الحقيقة مبالغ فيها ونوع من الدراما لكنها جزء من الواقع اليومي الذي يتعرض له شباب هذه الاحياء حيث الانحراف والتهميش الذي اجهضته سياسة القيتو التي تبنتها فرنسا مند سنين مما أدت الى هذه النتائج الوخيمة.
فعلا انها ضواحي تفتقد الى أدني مرافق الترفيه والرياضة والتسلية وفي خضم كل هذا يبقى الشاب ولوعا بالشغب والشرطة ولوعة بالقمع والردع.
وإذا قارنا الفيلم برواية البؤساء الشهيرة للكاتب فيكتور ايقو فإننا نستنتج أن الفقر القاتم استبدل بالعنف القاسي استنادا الى مقولته الشهيرة. لا يولد الانسان شريرا او منحرفا وإنما هو وليد ظروفه الاجتماعية.
Il n’y a ni mauvaises herbes ni mauvais hommes. Il n’y a que de mauvais cultivateurs.

زحام الأنساق في رواية “أنا وحاييم” للحبيب السايح

الدكتورة آمنة بلعلى/ كلية الآداب واللغات -جامعة مولود معمري، تيزي وزو

 

تضعنا رواية “أنا وحاييم” أمام إشكالية قرائية، تُربك كثيرا عاداتنا القرائية، على الرغم من أنّ موضوع المُهمّش اليهودي، تمّ التطرق إليه من قِبل روائيين آخرين كرشيد بوجدرة وأمين الزاوي وحميد عبد القادر وغيرهم، الأمر الّذي يضعنا، ومن خلال هذه الإشكالية القرائية، أمام إحراج تصنيفي، تسهم فيه، من جهة، طبيعة هذه التّيمة، التي يمكن إدراجها في إطار ما يتداول من مفاهيم، كاستعادة الذاكرة المُضادة، أو إعادة كتابة التاريخ، والمسكوت عنه، وغيرها من المفاهيم التي ترتبط بالفكر ما بعد الحداثي، ومن جهة أخرى، يسهم فيه التردّد في تصنيفها ضمن نوع من الرّوايات التي انخرط أصحابها في مشروع عولمة الرواية، المرتبط بالثقافة المُعولمة التي توجّه اختيارات الروائيين نحو هذا الموضوع أو ذاك استجابة للقيم العالمية الجديدة.

فهل أقنعنا الحبيب السايح في هذه الرواية بأنّها قصة اليهودي حاييم الّذي وُلِد في الجزائر وتعلّم وكبر ومات فيها، بل ضحّى من أجلها مثلما ضحّى بقية الجزائريين؟ وهل كان اختياره الكتابة في هذا الموضوع، كما صرّح بذلك، نابعًا من قناعته “بأنّ اليهود الجزائريين شكّلوا جزءا لا يتجزأ من مكونات البلد البشرية والتاريخية والثقافية” ومن ثمّ تصبح الرواية مجرّد مُرافعة عن اليهود الذين عاشوا في الجزائر وخرجوا منها طوعًا أو كرهًا، والتي يمكن أن يعتبرها البعض جزءا من حقيقة عن كذبة كبيرة جدّا يُروّج لها اليوم وفي سياق مخصوص، ونكون بذلك قد صنّفنا الحبيب السايح ضمن أطروحة تمّ العزف على وترها كثيرا وخاصة بعد العشرية السوداء؟ أم أنّنا يمكن أن نعتبر قصة حاييم موضوعًا مضللا يدفعنا لقراءته كوسيط سردي تسرّبت من خلاله مجموعة من الأنساق المضمرة بوعي أو بغير وعي، وجعلتنا ننصت إلى الحكاية نفسها وهي تقول أشياء أخرى من خلال مواقف وأحداث أخرى لم نعرها اهتمامًا لفرط شغفنا بمصير اليهودي حاييم.

نقر بهذا الإحراج، وكان بإمكاننا الاستناد إلى ما صرّح به الحبيب السايح، فجعلنا نطمئن إلى أنّ الرواية تحكي قصة حاييم، الّذي يُقدم في الرواية باعتباره نموذجًا مثاليًا لفئة من اليهود الجزائريين الذين رفضوا الانخراط في المشروع الصهيوني، وفهموا المواطنة بعيدا عن أي تشنج ديني، أو تعصب طائفي، ويكون بذلك الحبيب السايح قد بيّن لنا، من خلال هذا النموذج، أنّ أي حديث عن الديمقراطية، أو العدالة، أو العيش في سلام، في ظل سلطة شرعية لا بدّ أن يمر من خلال قناعة حقيقية بوجود مُشترك دون اعتبار لأي معيار آخر لمفهوم المواطنة بعيدا عن أي تشارك إنساني، وهو ما يعكسه العنوان “أنا وحاييم” الّذي يحمل في صيغته سؤالا حول إمكانية تدبير عملية الانتقال إلى تحقيق هذا البُعد التشاركي، وتسعى الرواية للوصول إليه في آخر المطاف كدعوة إلى إحياء فكرة التعايش والتسامح التي كانت سائدة في المجتمع الجزائري طيلة قرون.

إنّ هذه الفكرة ذاتها، وهي تستند إلى البعد التداولي الّذي يتيحه العنوان، سوف تفرض علينا إعادة النظر في فهم وظيفة الكتابة الروائية ذاتها، والتساؤل عن مدى انخراطها في موضوعات الحوار الّذي يدور اليوم حول أسباب المآسي التي يعيشها العرب والمسلمون دون سواهم من شعوب العالم الأخرى، وهل بإمكان الروائي أن يسهم في اقتراح بعض مطالب تدبير الإصلاح والتحديث في مجتمعاتنا، من أجل تجاوز سرديات قاتلة كمفهوم الهُوية المنغلقة، الّذي يزداد انغلاقا كلما فكرنا فيه، ويزداد به تكريس هيمنة تقوم، من جهة، على تكريس أسطورة الوحدة الإثنية واللغوية والدينية والطائفية، في عالم يتحدّد فيه مصير شعب بأكمله بسوء تدبير التصالح مع عنصر من عناصر هذه الوحدة، ومن جهة أخرى، تقوم على رؤية لتدبير كيفية توزيع المكاسب والمناصب.

قد يعتقد من هذا الطرح أنّ الرواية مجرّد خطاب يتغيّ الإصلاح السّياسي. والحقيقة أنّ هذا الطرح ذاته هو ما يجعلنا نفهم الرواية على أنّها هي الجنس الأدبي الّذي يقوم على تمثيل نماذج قادرة على التصالح مع العالم بإصلاح ذاتها، ومن هنا، فإنّ ما يمنح للرواية أهميتها وقيمتها هو الرؤية التي توجّهها وتجعلها جزءا من تاريخ الأدب الإنساني، الّذي هو تاريخ “التخصيب المتبادل والمتواصل بين الأفكار خارج حدود الجدران والحدود المصطنعة بين الثقافاتّ” والرواية كحالة من حالات التخصيب هذا، تصطنع تمثيلات تفترض من خلالها وسائل لتدبير الاختلاف، ترتبط في تحوّلاتها المستمرة بما تفرزه المجتمعات من تغيّرات أيضا، سواء سياسية أو اجتماعية أو ثقافية، ولذلك كانت الرواية ولا تزال “إحدى أدوات المعرفة القائمة على حركية الفكر والنزوعات البشرية، والتحوّلات الاجتماعية في جوانبها الأخلاقية والاجتماعية” وهذه الحركية تتغلغل في الرواية، وتسم النص بموجّهات تفرض معايير تصنيفه وقراءته وتأويله، وتجعل القارئ يتجاوز مقاصد المؤلف الواعية، ليبصر بالأنساق المضمرة التي توجّه عملية الكتابة وتتسلّل بين طيات النص، فتفرض منطقا آخر للتصنيف والقراءة، قد يتناقض مع توجيه المؤلف، أو قد يسير جنبا إلى جنب معه. هناك إمكانيات متعدّدة تجعلنا ننصت إلى الحكاية نفسها وهي تقول أشياء أخرى أو حكايات فرعية لم نعرها اهتماما لفرط شغفنا بمصير شخصية ما أو تقنية ما، أو أي رهان يضعه الروائي في طريق القارئ، ما يعني أنّه يستوجب علينا أن ننظر إلى الخطاب باعتباره منطويا على “بعدين: حاضر في الفعل اللغوي يتجلى عبر جماليات، ومضمر يتخفى متحكما بالعلاقة بين منتج الخطاب والأفعال التعبيرية التي تكون عناصر ذلك الخطاب”

ورواية “أنا وحاييم” التي تحكي ظاهريًا إيقاع الصداقة بين مسلم ويهودي تطرح أكثر من تساؤل يرتبط بعضه، بسياق كتابة هذه الرواية، ونحن نعيش تحولا في علاقة العرب مع إسرائيل، وفي علاقتهم مع بعضهم بعضا، ليتجدّد الكلام عن الأقليات والإثنيات والثقافات القومية والطوائف، وغيرها من المكونات التي عدّ تغييبها عاملا من عوامل تغييب الوعي التاريخي بها، وعدّت كذلك عاملا فيما وصلت إليه البلاد العربية من تشرذم، وصراعات تغذّيها أقانيم خطابية ثلاثة هي مقولات: الإرهاب والعولمة والحوار، أما الخطاب الأوّل فيقوم على الإدانة، والثاني على بسط الهيمنة بالوسائل الناعمة وأما الثالث؛ فينخرط في خطاب الدعوة إلى التعايش الإنساني، ولذلك نعتبر مثلما ذهب إلى ذلك الحبيب السايح أنّ هذه الرواية تندرج في الشق الثالث من هذه الثلاثية.
ولتحقيق التعايش ينبغي أن يتم تقويض كلّ المسبّبات التي تعمل دون تحقيقه، لذلك سيضطر الروائي إلى إعادة تحيين مجموعة من القيم تماشيا مع فكرة التعايش ذاتها، وسيقوم بعمليات إزاحة واستبدالات دلالية تستهدف محاورا خفيا هو القارئ.

ليست عملية التحيين بالضرورة عملية واعية، كما أنّ الروائي قد يتعمّد عدم الالتزام بموقف ما، ولكن بنية الرواية ذاتها واختيار الفضاء الزماني والمكاني الّذي تدور فيه الأحداث، يفرض موقفا معيّنا وهو يبحث عن ملامح هذه الهوية الثقافية التي يعبر عنها العنوان “أنا وحاييم” في وسط مجتمع يسوده الظلم والعنصرية في ظل الاحتلال الفرنسي للجزائر وفي فترة ثورة التحرير إلى ما بعد الاستقلال. ومن ثمّ، فإنّ الموضوع الأساس الّذي تصرح به الرواية يدفع الروائي، لكي يحسن تدبير صياغة منطق هذه الهوية لتكون مقنعة، أن يدير ذلك بما يقتضيه مفهوم التعايش ذاته، ويفعّل له مجموعة من الآليات، ويصوغ مواقف، ويتخلى عن قيم لحساب قيم جديدة، ليجعل القارئ يستوعب مختلف أوجه التدبير الهوياتي الّذي أراده، وتكون كلّ النقاشات وكلّ القضايا ممكنة، وكلّ الأسئلة محتملة، يمكن الكشف عنها في ملامح المشهد السردي في شكل تسريبات نسقية مضمرة تشي بتواطؤ مع الحكاية الأساس التي أعلن عنها في العنوان، وتمّ تمريرها من خلال سرد قصة إنسانية لعلاقة صداقة بين مسلم ويهودي منذ أن كانا طفلين، ودبّر لهما كلّ أساليب العيش معًا والدراسة معًا في وطن لم يكن حراً، فسعيا إلى المساهمة في رفع الظلم عنه، الأمر الّذي عمل على ترسيخ فعل الهوية بينهما من خلال تعزيز فعل التشارك في كلّ شيء، وتقلصت مسافة الاختلاف الديني بينهما حتى أصبح الإسلام واليهودية ممارستين اجتماعيتين متشابهتين في معظم أساليبها الرمزية، وهو الأمر الّذي جعله قادرا على تأسيس هذه الهوية الثقافية المتشابهة التي جعلت من أرسلان وحاييم واحدا، ويتجلى ذلك من التكرار المفرط في عبارة أنا وحاييم، ومثيلاتها من قبيل، مثل حاييم، كما حاييم، مع حاييم، فاشتركا في الشعور وفي الفعل وفي التفكير.

1- استعادة نسق المهمّش:

رواية أنا وحاييم، من خلال عنوانها، وطريقة رسم الحروف العربية للعنوان واسم الروائي وجنس النص، والصورة المثبتة في الغلاف، تقدم نفسها باعتبارها نسقا يفرض على القارئ من البداية التفكير في الحقيقة الثقافية التي تتوارى خلفه، وتفرض عليه الهيئة الخارجية التي ظهرت به موقفا قبليا هو ما تمّ التصريح به في الغلاف الخلفي للرواية وما أكده المؤلف ذاته في حوار معه، من أنّ الرواية تشتغل على إعادة الاعتبار لصورة اليهودي في المخيال الثقافي الجزائري، في إطار إشكالية الهوية الأبدية في الثقافة الجزائرية. وهو الأمر الّذي يدعو القارئ إلى استجلاء العلاقة بين النص والثقافة وأيضا التاريخ، وينظر إلى الرواية باعتبارها صياغة لعالم جديد باستعادة واقع تاريخي لتدبير عملية تمثيل البعد التّشاركي الّذي عبّر عنه المؤلف بالتعايش وهو ما يثير الإمكانية التأويلية الأولى التي تجعلنا نثير تموقعها في ظل خطابات الثقافة العالمية الحالية.
تستدعي هذه الإمكانية إذن الإشارة إلى الآليات التي تجعل الرؤية في هذه الرواية تنسجم مع فكرة التعايش الجديدة، وتقوم بالدرجة الأولى بتقويض سردية تاريخية يعلن منذ البداية أنّها تتناقض مع فكرة التعايش، وهي “اليهودي عدوّ” فتكون عودة اليهودي المهمّش وبالصيغة التي ورد بها عرضه في غلاف الرواية، إعلانا عن تواري السردية التاريخية الكبرى التي تشكلت في المخيال الجمعي للجزائريين الذين لا يذكرون لفظة يهودي إلاّ متعوذين بالله منه.

كان لا بدّ إذن من العنوان، وصورة الغلاف التي تجمع طفلين يظهر على أحدهما رمز الهوية اليهودية، ويبدو الآخر مجرّدا من كلّ رمز، وهما في حالة انسجام تام، كان لابدّ أن يكسر طوقا من التمثيلات الرمزية في الثقافة الجزائرية وينقلنا من ثقل نسق العداء، إلى صياغة سـردية أخرى هي إمكانية العيش معا في سلام، وهي من القيم الجديدة التي تقوم عليها ثقافة العولمة، والتي تقضي ظاهريا بضرورة تجاوز التمثلات العنصرية التي تعرّض لها اليهود في العالم، بتفكيك قيم المؤسسة التي كرّستها، اجتماعية كانت أم سياسية، وكانت تسعى من وراء ذلك إلى بناء شرعية زائفة، تدعو أحيانا إلى تطهير الهوية الجزائرية من فئة تواطأت مع المستعمر لتعميق مآسي الجزائريين، وأحيانا أخرى تتبنّى شعار المشروع العربي القومي، بتحرير فلسطين من اليهود، فهل إسقاط السردية التاريخية التي صاغتها بنية تسلطية إقصائية لتمثيل اليهودي في المخيال الجزائري، كان من أجل الحكاية، فحسب، أم أنّه ينسجم مع رؤية ديمقراطية جديدة تتبناها الرواية قبل المؤسّسة في الدّعوة إلى إعادة بعث المشروع التحديثي في الجزائر الّذي عبّر الحبيب السايح عن انهياره في رواية “زمن النمرود” وتقتضي هذه الرؤية إستراتيجية في تفكيك الأنـسـاق المتحكّمة فـي الـثـقـافـة الـمـهـيـمـنـة، وتـعـريـة تـحـيّـزاتـهـا الإيـديـولـوجـيـة. ومن ثمّ تصبح الرواية متموضعة ضمن الـسّـرديـات الـبـديـلـة فـي الـحـقـل الـثـقـافـي الـعـام كإسـتـراتـيـجـيـة مـضـادّة لـكـلّ صـور الـهـيـمـنـة الـثـقـافـيـة والـرمـزيـة الكامنة خلف الخطابات والممارسات الدالة في المجتمع، وهذا التموضع الثقافي هو ما يحدّد بنيتها النصية بكونها نقدية وتفكيكية
تبدو الإجابة بالإيجاب، في كلتا الحالتين، ما دامت الرواية اليوم تقدّم نفسها باعتبارها أداة من أدوات الثقافة السائلة بمفهوم زيغموند باومان، وهي نفسها ثقافة العولمة، وليس الأمر بغريب ما دامت الرواية في الغرب قد “ارتبطت في تاريخها بالوعي القومي وتشكّل ما يسمى الضمير الجمعي للأمة وبخاصة إبان نشوء مفهوم الأمة nation وبزوغ عصر الدولة القومية في القرن التاسع عشر، وفي الوقت الّذي كانت الرواية الناطقة بالانجليزية توصف بالرواية الإمبراطورية تنسيبا إلى فضاء الثقافة الإمبراطورية البريطانية، فقد بتنا نرى اليوم اتجاها روائيا معاكسا يميل إلى عولمة الأفكار والثقافات بدلا من مركزتها في شكل استقطاب أحادي اللون والنكهة الثقافية” وشبيه به ما شهدناه في الجزائر حيث ارتبطت الرواية المكتوبة باللّغة العربية في سبعينيات القرن الماضي بالواقعية الاشتراكية وكانت لها أدبياتها التي جعلتها تنخرط في حركية الفعل السياسي التحديثي والتنويري آنذاك.

يهشّم الحبيب السايح “دوغما” مركزيا في الثقافة الجزائرية، شأنه في ذلك شأن مجموعة من الروائيين الذين انخرطوا في مطلع الألفية خاصة، في مسار استعادة ذاكرة مهمشة، تتكوّن من فئات اجتماعية حكم عليها التاريخ بالموالاة للمستعمر، وساهمت في إدامة الغبن الجزائري، كفئة اليهود الذين سارعوا إلى التجنّس، والحركى، والإقطاعيين الذين نصبتهم فرنسا آليات لفرض هيمنتها على الجزائريين، ثمّ وجدوا أنفسهم بعد الاستقلال يقبعون في الهامش، تحت وطأة سلطة ساهمت في إنتاج هيمنة جديدة قائمة على الإقصاء، وتركت وراءها مجموعة من الاستفهامات، التي تقوم على التشكيك في أصالة تاريخ الجزائر، وتاريخ الثورة على وجه الخصوص، وقد حفزت هذه الاستفهامات الروائيين الجزائريين بعد العشرية السوداء خاصة، فانتقلوا من مرحلة تخيل التاريخ الّذي شهدناه في رواية السبعينات إلى تأويل التاريخ وإعادة قراءته من أجل اكتشاف التاريخ غير المروي والمقصي، فبدأنا نقرأ تراجعات ومراجعات لصالح تصورات جديدة تقوم على تقويض ما اعتقد أنّه هيمنة السّلط، وشرعية القوّة. واتخذ كلّ روائي سبيله في التقويض عجبا، وبحسب الرؤية التي تلزمه.
ونحن نتابع “أنا” السارد وهو شخصية أرسلان ابن القائد الإقطاعي المختار بعناية فائقة من النخبة المثقفة المتخصّص في الفلسفة والمنحاز إلى الفكر اليساري، (وهي الخلطة العجيبة التي صنعها الحبيب السايح) وجعله ينخرط في الثورة التي هي بالنسبة إليه حرب ضدّ الظلم الّذي يمارسه المعمرون على الأهالي من الشعب الجزائري، يبدو في الرواية يمتلك سلطة الخطاب، والحكي، منذ أن أعلن تبعية اليهودي له، في ترتيب الجملة الإخبارية التي تصنع عنوان الرواية، ويتبنّى من البداية التي عاد بها إلى الذاكرة في تدبيره لعملية نقل حاييم اليهودي من مرتبة المهمّش، من خلال تواطؤ أقامه بينه وبين فئة الإقطاعية من حيث النفاذ إلى نفس الحقوق التي يمتاز بها المعمرون، كوسطاء للسياسة الكولونيالية، وأهمها الرفاه المالي والحق في التعليم، وغيرها من الامتيازات على الرغم من محدوديتها.

كان أرسلان وهو يسرد قصة صداقته مع حاييم، ومن خلال موقفهما من معاملة الأهالي، إنّما يعيد أيضا الاعتبار إلى فئة “القياد” التي صنعت لهم الرواية الجزائرية، سواء المكتوبة بالعربية أو الفرنسية، من قبل نموذج الموالي للمستعمر، فينقله من هذه الوضعية الهامشية، ويجعله نموذجا وطنيا، ساهم في مساعدة الأهالي، بل رفعه إلى مرتبة الولي بالنهاية التي خصّه بها وهي وفاته في مكة، ويختار ابن القايد الّذي رام من خلاله وفي علاقته مع حاييم الإسهام في المشروع البديل القائم على تذويب القيم السابقة ليتيح إمكانية إقامة مفهوم معيّن للمواطنة لديهما، فعبّر عن ردود أفعالهما مما يلاقيه الأهالي من معاملة سيئة من الكولون، وكانت ردود الفعل تلك تأتي في شكل تقارير، في حوارات الصديقين تنبئ بوجود وعي جديد، وفكرة جديدة هي بداية تشكل الوعي للتحرّر من الظلم إلى أن تحول إلى سلوك من خلال انخراط أرسلان في خلية للتحضير للثورة ثمّ الالتحاق بالجبل، ومساهمة حاييم في تزويد المجاهدين بالأدوية، وهكذا ينتقل السائح بحاييم وأرسلان معا، من الإقصاء إلى عملية دمج تبدو في الرواية كإستراتيجية تقوم على الاحتواء، بتجاوز القومية المغلقة، فبدت لنا العلاقة بين العائلتين اليهودية والمسلمة علاقة مثالية متطهرة من كلّ ما يوحي بالاختلاف، فليس هناك اختلافات ولا صراع، هناك تشابه في المأكل والمشرب، والعادات ولذلك بدا حاييم من خلال أقوال أرسلان وحواراته معه، ومواقفه، نموذجا يهوديا متماثلا مع أرسلان، فقواعدهما السلوكية متشابهة إلى حد التطابق، “حيث لم يصدر (كما قال ارسلان) من حاييم تجاهي ما أشعرني بأنّه تضايق مني لكلمة أو إيماءة أو سلوك، في مثل هذه الحالات كان مرآتي وبارومترييّ”
سعى الروائي، لكي يصبغ على حاييم كلّ معاني المثالية إلى الحد الّذي لم نر فيه صدور أي خطأ منه، حتى في المواقف الحرجة كمحاولة قتله أو حرق صيدليته، بل لم نلمس أي تناقض يذكر لا في كلامه، ولا في سلوكه، فهو إنسان تشرّب الحكمة من صغره، ولم نشاهد له نزوات عاطفية، مريبة، يدلّ عليه قول أرسلان: “أجدك كما ربيّ أرثوذوكسيا زاهدا بلا نار في قلبه” كما أنّه لم يخرج عن التزاماته الدينية، ولا مواقف تتناقض مع فلسفة اليهود في الحياة، ومن هنا يتأكد لدينا الاحتمال الّذي يؤكد هذه الرؤية التي تسمح لنا اعتبار الرواية تصحيحا لخطأ حصل في تصور اليهودي أو على الأقل نموذج معين من اليهود هو اليهودي الّذي يحب الجزائر والّذي لا علاقة له بالصهيونية العالمية ولا بدولة إسرائيل، ويدلّ عليه رفضه فكرة الهجرة إلى فلسطين، وتضحيته بحبه، وكاد أن يضحي بنفسه من أجل الجزائر.

غير أنّه لو تمّ تبرير هذا التوصيف، لكنّا اختزلنا الرواية إلى حكاية اليهودي حاييم وإلى هدف واحد هو إعادة الاعتبار لليهود، ومن خلاله فئة الإقطاع، وكذا الشيوعيين وقد نعزّز هذا المنحى بأن نقول بأنّ هدف الروائي هو أنّنا كنا كمسلمين ومع اختلاف توجهاتنا السياسية نعيش مع اليهود في سلام، ومن ثمّ فهو يذكرنا بنموذج اليهودي الّذي عاش في كنف الحضارة الإسلامية، وكان عنصرا فاعلا منها وبالتالي يمكن النظر إلى الرواية على أنّها مرافعة ومحاججة بامتياز لصالح يهود الجزائر من خلال نموذج مثالي هو حاييم الّذي قد يكون نموذجا افتراضيا، ما لم يثبت بالوثائق التاريخية أنّ بعض يهود الجزائر لم تكن لهم علاقة بالصهيونية ولا بدولة إسرائيل. فنكون بذلك قد أكدنا قناعة الروائي حين قال أنّ روايته حملت “من بين ما حملته، شهادة لتخليد ذلك التعايش الّذي ظلّ لمدة قرون قائما بين الجزائريين، مسلمين ويهودا”
فهل يكفي هذا لنخلع رداء التأويل ونغض الطرف عن الوجه الآخر الّذي بصرنا به من شخصية حاييم، ونصرف النظر عن شخصية أرسلان فينسينا وظيفته كسارد كونه شخصية أساسية لولاها لما تعرفنا على حاييم ولا تعرفنا على طبيعة ذلك التعايش الاجتماعي والثقافي بين اليهود والمسلمين، وهو ابن القائد الّذي يمثل فئة الإقطاعيين وكان أيضا بحاجة إلى شهادة تبرئة، طالما أنّ المرجعية التاريخية رسخت في المخيال الجزائري صورة الوسيط العميل للمستعمر، وأنكرت دورهم في المساهمة في الثورة، ومن ثمّة ألا تكون مسألة انخراط كلّ من أرسلان ابن القايد وحاييم اليهودي في الثورة مجرّد صناعة لتاريخ مواز يقوم على تحالف بين الإقطاع والشيوعيين وبعض اليهود، لتمرير رؤية أخرى متوارية في لغة أرسلان وفي حواراته، وفي موقفه من جيش التحرير الوطني وجبهته، وفي موقفه من خروج الكولون، ومن النظام الّذي تقلد الحكم بعد الاستقلال ممثلا في مسؤول الحزب، وهو ما يجعلنا نتساءل عن المضمرات النسقية التي تتوارى خلف هذه المواقف وهي غالبا ما تكون أنساقا تاريخية، تفرض نفسها وتتسرّب وتسري على غير هدى الكاتب ومن دون وعي منه، حتى وإن أراد عكسها.

2- سريان نسق الذمية:

سيكون سهلا اكتشاف أن تكون تيمة اليهودي مجرّد خطاب تضليلي يبطّن نسقا مضمرا يضمحل فيه الدور المثالي الذّي بصرنا به ونحن نتتبع حكاية أرسلان مع حاييم وذلك التلازم العجيب بينهما. وفي الوقت الّذي نشعر فيه أنّ الروائي يمسك بزمام الأمور فيهشّم صورة اليهودي في المخيال الجزائري، يتسرّب من خلال إستراتيجية الدمج والاحتواء تلك، نسق آخر مقاوم، حيث يبدو لنا حاييم النموذج المثالي كما أسلفنا الذكر، بالنسبة لأرسلان مثل ظله مجرّد تابع، من بداية العنوان، حيث عمد السائح إلى كسر قانون تعاملي في استعمال الجملة العربية يفترض تقديم الآخر على الأنا احتراما له، فكان حريا أن يتصدّر النموذج المثال بداية الجملة، فيقول حاييم وأنا ليكون تقديمه دالا على المكانة التي أرادها له، ويتكفل السارد بتحيينها، ولعل في تكرار هذه الجملة في كلّ المواقف، والأزمنة والأمكنة التي جمعت الصديقين ما يدل على أن نسقا مضمرا يوجّه الكاتب إلى هذا الاختيار وهذا الإصرار يتعلق بسريان نسق مركز/هامش في نص الرواية تجاوبا لا واعيا مع مرجعية كرّست هذه العلاقة في التاريخ وفي الحضارة الإسلامية حيث لم يكن اليهود سوى أقلية تابعة، سمّيت أهل ذمّة. ولعل هذا الوضع التاريخي وإن ارتبط بمرحلة معينة من تاريخ الحضارة الإسلامية، فإنّه بقي يشتغل باعتباره نسقا متأصلا في المخيال الديني والسياسي والاجتماعي الإسلامي تغذّيه رؤية متمركزة في لا وعي كلّ مسلم، باعتباره ذميا، وتقوم باستعادة موضوع المقصي المحكوم عليه بالتيه، والنفي، والموت في محتشدات هتلر.

وقد اتخذت الذمية وضعا عنصريا مع الدولة العثمانية، مثلما ورد في قول حاييم مبررا قبول التجنيس لدى يهود الجزائر، في قوله: “تعرف؟ جادلت والدي في أمر تجنّسه، فكان رده أنّه فعل ذلك لأنّ العثمانيين، هنا، كانوا يهينون أجدادنا، باعتبارهم ذمييّن لهم عليهم من حق الحياة نفسه. وكانوا يفرضون عليهم الجزية. ويلزمونهم بلبس أثواب ذات ألوان صفراء. ثمّ خلص إلى أنّه يكفينا مع النصارى أن نحافظ على ديننا ولغتنا، كما ينادي بذلك رجال الدين المسلمون في البلد أيضا”

إنّ تسريب النص هذا النسق، حتى وإن لم يكن في وعي الروائي، يتجلى من خلال تولي أرسلان حكاية قصة حاييم، في حين بدا صوته السردي خافتا، ولم تمنح له إمكانية كتابة قصته وتاريخه من منظوره هو، إذا اعتبرنا أنّ حكاية حاييم هي حكاية نموذجية لتاريخ اليهود؛ فأرسلان هو من يملك القوة الثقافية، لأنّه هو من يملك سلطة الخطاب، وسرد حكاية اليهودي، وتتمظهر تلك السلطة من خلال ردود أفعاله التي كانت كلها، قولا وعملا، أفعال كلام إثباتية لما يقوله أو يفعله أرسلان، مع اختلاف بسيط في القناعة الدينية، وعندما استرد فعل السرد كان ذلك من خلال رسالته الأخيرة إلى أرسلان، التي تؤكد تحقيق الوعد بالعهد الّذي بينهما بأن أوصى له بجزء من أملاكه والجزء الآخر إلى الهلال الأحمر والبيعة اليهودية، ولعل هيمنة أرسلان وامتلاكه سلطة الخطاب على طول الرواية، باعتباره هو من يتولى سلطة السرد وتنسيق الخطاب، ساهم في تفعيل نسق الذميّة الّذي يعشعش في المخيال الإسلامي الجمعي عن اليهودي. فجعلنا نحس ونحن نقرأ الصفحات التي يتكلم فيها حاييم، وقد سردها أرسلان كسارد عليم بما كان يجيش في صدره عندما كتبها، يتضح بذلك التمزق في الهوية وتلك الوضعية التي أجبرته على التبعية، فيقول مخاطبا والده: “مع أنّك كنت لا تفتأ توصيني بألاّ ننسى بأنا أصحاب كتاب مقدّس منه نستلهم سر كلّ كتابة، وبأنّه لا يجدر بمن له كتابه ألا يترك أثرا مخطوطا”
وعلى الرغم ما يوحي به حضور حاييم وصداقته مع أرسلان من محاولة تذليل التعارض القيمي الّذي يحمله نسق مسلم/ذمّي، إلاّ أنّ الهيئة التي ورد بها تلخّص كلّ مقومات الذميّة، ليس في إعطاء عهد ضمني يؤمّن حاييم على عرضه وماله ودينه، فحسب، فقد دافع أرسلان عنه عندما أريد قتله، ولما أُحرقت صيدليته، وظل طول الرواية في ذمّة أرسلان، يتبع شروط الذميّة حيث لم يروّج للدين اليهودي، ولم يتجاهر بما هو مباح عندهم كشرب الخمر، بل تولىّ أرسلان بدله مهمّة المجاهرة باحتسائها في كلّ لقاء مع حاييم ويمكن اعتبار الوصية التي أوصى فيها بجزء من أملاكه لأرسلان بمثابة الجزية التي يقدمها اليهودي.

لقد رسم لنا السايح دورا لليهودي مشيّدا ثقافيا في فضاء من التهميش، فأبقاه وحيدا ومات وحيدا بالسرطان داخل النسيان والصمت، ولذلك، بدا البيت المهجور الصامت الّذي استهلّ به الرواية هو نفسه القبر الّذي انتهت إليه حياته، لقد حصره بين بيت وقبر، ولم يمكّنه من امتلاك وطن، لا بالإبقاء على انتمائه لوالده، ولا ترك وراءه وريثا يضمن له ذلك الامتلاك، ولعل انتهاء حكايته بالموت، تستجيب لانتهاء الدور الّذي أنيط به، وكأنّه جاء فقط من أجل تحسين صورة اليهودي، للإيهام بالوطنية والتاريخية، وبانتهاء هذه الوظيفة، انتهت حياته، ولذلك بدت الحياة عند حاييم وبهذا الدور الّذي مارسه مجرّد حياة لا معنى لها ولذلك لم يستطع الاستمرار في الحياة فمات بالسرطان، والسائح هنا ومن خلال هذا النسق المضمر الّذي يتسرّب إلينا من لا وعيه كأنّه يضع مفهوم التعايش مع اليهود والتاريخ الّذي صنعه لليهودي بين احتمالين “إما أنّها مجرّد أوهام وتخيّلات يمتنع تحقيقها وإما حياة لا يمكن احتمالها والتمتّع بها”
ولذلك فإنّ المعنى الّذي يرسخ في الذهن، من حياة حاييم، يرتبط بتهشيم الجانب السلبي الّذي تؤديه القومية سواء في بعدها الديني أو الإثني، ولذلك قام الروائي بنفي ما يتعارض مع مفهوم الوطنية لدى حاييم، فجرّد أرسلان من كلّ السّمات الدالّة على البعد الديني اعتقادا وسلوكا، تأكيدا لفكرة التّسامح تجاه التنوع الثقافي، وهو ما يفسر تركيزه على الجانب الاجتماعي من الدين حيث سعى أرسلان المسلم إلى إحياء مجموعة من التمثلّات الاجتماعية والثقافية للدين التي يشترك فيها الإسلام واليهودية، كبعض العادات والتقاليد والمأكل والمشرب، وهي أداءات ثقافية اجتماعية مفرغة من رمزيتها الدينية بخلاف حاييم الّذي بدا أقرب إلى السردية المتمركزة حول الدين، فجعلنا نشعر كأنّ التديّن أمر مقضي بالنسبة لليهودي وليس فكرة يتبنّاها الفرد ويمكن يتحوّل عنها، فحين قال حاييم، “أننا مخلوقون بإرادة وليس بصدفة” فإنّ الخيار الّذي تعكسه هذه المقولة هو أنّه لا بدّ بقبول حكم الله وما يقدره، إيمانا بفكرة الإرجاء التي يعتبر الإيمان بها جزءا من التديّن لدى اليهود، ومن ثمّ فالحدود التي تفصل بين أرسلان وحاييم مرسومة بوضوح وهو الاختلاف الّذي يتجاوز التشابه الشكلي بينهما.

إنّ فكرة التعايش التي سعى الروائي إلى تحقيقها، من خلال حكاية متخيّلة، بدت في هذه الرواية كأنّها طقس تطهيري جمع، أرسلان، وهو أنا المتكلم، بحاييم، ليصبح نحن، فعلا من أفعال حماية الذات، يهدف إلى تطهير صورة فئتين أقليتين من المجتمع الجزائري في عهد الاحتلال، من كلّ شيء يوحي بالاختلاف أو الصراع، كتجسيد رغبة في التماثل، اصطنعها الروائي لاجتناب ضرورة النظر العميق في الاختلاف بينهما ولذلك لم نلاحظ نقاشات فكرية، في أي موضوع إلاّ ما جاء عرضا، كقضية الإيمان بالله، بل إنّ تخصص الفلسفة الّذي اختاره أرسلان لم يتمّ تسريده في الرواية، بالشكل الكافي، وتمّ إسقاطه لصالح فكرة التعايش التي بدت، مثلما أسلفنا، أنّها فعل تطهّر انتقلت عدواها إلى الروائي، حين عكف على التخلّص من سردية المهمّش، فلاحظنا كيف تمّ تحويل الرغبة في تهشيم هذه السردية حافزا لجعل حاييم متشابها مع ارسلان، وهو ما يمثل استعارة، سرعان ما تذكّرنا بالأصل الّذي بني عليه وهو نسق الذمية، فيقود الحلم بالتعايش والتشابه، وتحقيقه على مسار الحكي، إلى استحضار النسق التاريخي، مسلم/ذمي/ ما يعني أنّ الرواية وهي تقدم نفسها بأنّها دعوة إلى تعايش مفترض، تشكك في أن يكون سؤال التعايش ذاته سؤالا ملحاّ من أسئلة الثقافة الجزائرية، بل لا يطرح، مثلما يطرح في بلاد عربية أخرى. ولعله من هذا الجانب، بدت الرواية فضاء لزحام الأنساق، يحتمي أحدها بالآخر من أجل أن يقوض نسقا آخر، فافتراض التعايش يقتضي بالضرورة تمرير النسق الإيديولوجي حتى وإن بدا بأنّ فكرة التعايش ذاتها بالصيغة التي عرضنا إليها تتعارض مع الايدولوجيا، غير أنّ تعزيز الرؤية الذمّية التي تظهر من خلال تقاطب قائم ظاهريا على علاقة صداقة، تتخلله علاقة قوة، يتخذ فيها من الصداقة آلية تطويع لتحقيق مشروع قبول التشابه والتعايش.

3- تفكيك أسطرة الثورة

لم يكن بإمكان الروائي تثبيت نسق التعايش ولا صناعة تاريخ مواز، يضم ابن القايد واليهودي، دون إعادة تقييم للتاريخ الرسمي، وهو حين جعل الرواية تدور حول هذين النموذجين، وربطهما بثورة التحرير، إنّما كان يوجّه نقدا لرؤية معينة، ويقرأ التاريخ الرسمي وهو التاريخ العام، من خلال هذا التاريخ الّذي صنعه، وهو بذلك سيزيح مركزية أساسية في تاريخ ثورة التحرير ذاتها، سواء من خلال الاتجاه نحو هذه الفئة المهمّشة التي تستدعى في الذاكرة باعتبارها عميلا للمستعمر، أو من خلال تجريد تاريخ الثورة ذاته من أدبياته، ومن الطابع الديني الّذي ارتبطت به الثورة في عقول الجزائريين، ومن ثمّ، ما كان لمشروع رفع التهميش عن هذه الفئة ليتم في الرواية لولا نزع المركزية والأسطرة عن التاريخ الثوري، باعتباره خاصاّ بالجزائريين المسلمين، وحسب، ولذلك تمّ التغافل عن رموز الثورة التحريرية المعروفين، إلاّ بالإشارة إلى بعض أعضاء الحزب الشيوعي كصادق هجاس، وحسيبة التي أقحمها معه، للإيهام بالتاريخية الجديد، ثمّ استعار من الثورة للتخطيط لرفع الظلم عن الأهالي، بمحاربة المستعمر والصعود إلى الجبل والمساهمة من حاييم بالإعانة الطبية، وهي من مستلزمات الفعل الثوري، وهو يعيد البناء بمحاكاة تاريخ الثورة، غير أنّه، يقوم بعملية عزل أدبيات الثورة، وإفراغها من فواعلها الآخرين، ومن خطابها، ومن طقوسيتها ومن الموقف المتداول منها ومن الاستقلال. بعد أن هيأ لها راويا متماثلا حكائيا، وتفعيل النسق الأيديولوجي لديه وهو النسق الشيوعي الجزائري الّذي يذكرنا بانفصال الشيوعيين الجزائريين عن الحزب الشيوعي الفرنسي وانخراط بعض أعضائه في الثورة، وأصبحوا جزءا من جبهة التحرير، يؤمنون بمبادئها ويسيرون وفق أدبياتها، لكن أرسلان الّذي اختاره الروائي، لم يأت من أجل إعادة قراءة التاريخ الثوري فحسب، ولكن أتى ليمثّل مسكوتا عنه من هذا التاريخ، الّذي كان له ممثلوه، ومنتجو خطاباته، فيصبح للتاريخ الثوري الرسمي عندئذ ذاكرة مضادة، تعترض التاريخ ولا تكتفي فقط بتسجيل وقائعه، بل ترفض النظر إلى الماضي باعتباره حقيقة
يقدم لنا السارد، تاريخا آخر ومن منظور مختلف، ولذلك لاحظنا تواري خطاب ثورة التحرير، وحلول أدبيات أخرى ومعجم آخر محله؛ فالجبهة أصبحت فرقة ومنظمة والثورة حرب تحرير والمجاهد مقاتلا والجهاد قتالا والاستشهاد وفاة في أغلب ما ذكر ما عدا الشهيد علي) والاستقلال سِلمًا أو هو في أحسن الأحوال “نظام منسجم خال من الاستغلال والميز، يتعايش فيه الأهالي مع غيرهم” “إنهاء النظام القائم على المستعمِر والمستعمَر” من أجل العدالة، على الرغم من تردّد كلمة الاستقلال ثماني مرات، وخصّص لها مشاهد احتفائية، تبتعد عن طقوس التقديس الّذي يربطها بالدين، ويبدو هذا الأمر متوافقا مع طبيعة المشاركين في الثورة التي لم تكن حكرا على المسلمين، ولذلك نجد الروائي قام بإبعاد المصطلحات الدينية، واستبدل بها أخرى، هي مصطلحات محايدة، أقرب إلى الفكر اليساري، الّذي يركز على البعد الاجتماعي للثورة، وتكرّرت هذه المصطلحات على مسار الرواية مثل السِلم، الحرب، الظلم العدالة، الاستغلال وغيرها، وانعكس ذلك على الموقف من الاستقلال الّذي كان إقرارا للسلام بين الجزائريين والفرنسيين، الأمر الّذي أدّى إلى إخراج ثورة التحرير والاستقلال من السّردية الكبرى التي صاغت دال الثورة والاستقلال ومدلولهما، فيما يشبه الانقلاب على أدبيات التاريخ الثوري لجبهة التحرير المرتبط بأخلاقيات المعجم الديني، ليتحول إلى دال محايد، كرمز لمشاركة الجميع، وتماشيا مع التاريخ الّذي شيّده لحاييم الّذي لا تاريخ له.

لقد تمّ ترحيل أدبيات ثورة التحرير، عن جبهة التحرير التي صنعت نسقا دينيا وسردية كبرى، وكان أرسلان المشبع بالفكر اليساري جسرا بين إيديولوجيتين أظهرت تحالفا بين قوة الإقطاع واليسار واليهود، فقدم إعداما مجازيا لجبهة التحرير من خلال اختزالها في حروف ثلاثة (ج، ت، و) وكأنّه يفرغها من طابعها الديني الرمزي الّذي تأسّست عليه سرديتها وصاغت أدبياتها منه، فقدمت نفسها منذ بيان أوّل نوفمبر إلى مؤتمر الصومام والدساتير المختلفة قبل الاستقلال وبعده على أنّها سردية كبرى أطرت مفهوم الجزائريين للتاريخ الثوري ردحا من الزمن. وقدمت نفسها على أنّها الحامل الوحيد للحقيقة الواحدة والمطلقة.

لقد قام بما يشبه عملية إعدام لساني استبدل بها مفردات بأخرى، وهي مصطلحات محايدة تستجيب لتحييد أسباب الحرب وحصرها في مطالب اجتماعية من فقر وتهميش، كما أشار إلى أخلاقيات أخرى سكت عنها التاريخ الثوري، كعلاقته بزليخة في الجبل واحتساء النبيذ المتكرّر، فنكون هنا بصدّد قراءة تاريخ من يصنعه، ولغاية ما، وكأنّ السارد يعلم القارئ باللّحظات التي يتم فيها تقويض التاريخ الرسمي، بصناعة لحظات أخرى له، خارج الهالة التقديسية التي ارتبطت بها، باعتبارها جهادا لا يختلف فيها الكفاح ضدّ المستعمر عن القتال ضدّ الكفر، وهو ما يعتبره السارد تمثيلات ميتافيزيقية أو إيديولوجية طوباوية.
وليس غريبا أن يختار الحبيب السايح شخصية أرسلان وهو الخارج عن المركز، ليتولّى حكاية تاريخ الشعب الجزائري من منظوره هو، بل يروي تاريخا آخر ساهم فيه تحالف فئات أخرى من الجزائريين المهمّشين، غير أنّ الاستقلال جاء بعكس ما كان يتوقّع، فلاحظنا كيف بدأ السقوط في التهميش حيث بدا أرسلان ضحية موقف غامض، تجسّد من خلال صراع مباشر مع رجل الحزب، وانتهى إلى خروجه من رئاسة البلدية كإشارة إلى التهميش الّذي تعرّض له اليساريون.

لم يكن ذلك ما أراده أرسلان، ولذلك يرى أنّ ما حصل، بعد خروج الكولون، ليس هو السّلم الّذي سعى إليه، إنّه يشخص طبيعة الأثر المفجع للاستقلال على الجزائريين من خلال تمثيل مظاهر العنف التي مورست على بيوت المعمرين، ويرسم لنا هذا العنف بين الثقافة واللاثقافة التي مثلها رجال الحزب كأسلوب من أساليب الهيمنة، ولذلك يبدو ممثل الحزب الّذي ظهر بعد الاستقلال شاهدا على ديكتاتورية مقيتة تقوم على الإقصاء والهيمنة، ولذلك نراه يسائل مفهوم الهُوية التي تكرّست بعد رحيل المستعمر، وتجسدت في الرواية من خلال إيديولوجية الهيمنة.
غير أنّ أرسلان يستطع أن يحوّل فكرة المشاركة في الثورة إلى مصدر قوة بعد الاستقلال على الرغم من توليه رئاسة البلدية، فسرعان ما تنازل عن هذا الدور وهو وظيفة أستاذ وهو الدور الّذي لم يمكنه من إحداث أي أثر في الواقع، على الرغم مما أوحى له به من تمكنه من تغيير نحو الأفضل بالهيمنة بالخطاب التعليمي، حين تخيّل نفسه يعلم تلاميذه تاريخا آخر غير التاريخ الّذي كرسته السلطة الاستعمارية، لكن لاحظنا ذوبان ابن القائد أمام سلطة مسؤول الحزب المسيطر على منافذ الخطاب وإحكام السيطرة على الخطاب، من خلال التحذير والتهديد وغيرها مما يوحي بسوء توظيف السلطة لدى حزب جبهة التحرير الوطني بعد الاستقلال.

لم يجد أرسلان مدخلا للسيطرة بالخطاب سوى تكفله بسلطة التمثيل الروائي، وما عكف على صنعه من تاريخ مواز وهو يسرد قصة التعايش التي تدور حولها الرواية، لكنّه ذاب مثلما ذاب اليهودي ولم يكن الانخراط في الثورة الّذي اصطنعه له الروائي طريقا لخلق مقاومة، أمام هيمنة رجل الحزب، الّذي أهلته جبهة التحرير الوطني ليكون طرفا فاعلا في علاقة القوة، وهي إشارة واضحة إلى أنّ التاريخ الموازي لم يكن لدى الروائي سوى مجرّد افتراض، على الرغم من أنّ قناعات عميقة كانت تسيّره، غير أنّ تلك القناعات تلاشت أمام من يتحكّمون في الخطاب ويسيطرون على العقول، ولم تجد المنفذ الفعّال لتحقيقها.

قام الروائي بتفعيل التاريخ المضاد بتحويل منظومة ثورة التحرير وجبهة التحرير الفكرية فئة مهمّشة، بتحويل دور القايد من عميل إلى مدافع عن حقوق الأهالي في قوله: “والدتي التي أخبرتني يومًا أنّ والدي قبل يومًا مسؤولية قايد” ليرد عن الأهالي غطرسة الكولون ويخفف عنهم ظلم إدارة فرنسية طالما رأيت بعيني وجودها مجسدا في الحقول والمباني والمزارع تحرّرا ورفاها وعلى حال الأهالي قهر وفقرا” غير أنّ عدم قدرته على الاستمرار في المجابهة وعدم إيجاد المنفذ الفعّال للمشاركة في إنتاج خطاب جديد بعد الاستقلال، أسهم في تأكيد الهيمنة التي مارسها حزب جبهة التحرير على خصومه بإعادة تشكيلهم وفق المشروع الّذي أراد، ولم نلاحظ معارضة فعلية من أرسلان، ولذلك نرى بأنّ الانقلاب على سردية جبهة التحرير ومحاولة تجريدها من أحقيتها في الثورة، وتعويضها بالثالوث الجديد بقي مجرّد صورة مجازية افتراضية انتهت قبل انتهاء الرواية وهو يعتبر علامة فارقة على عدم القدرة على مقاومة الهيمنة، وعدم تمكن النخبة الرمزية الجزائرية من إيجاد الطرق الكفيلة بتحقيق النفاذ الّذي يسمح بالتأثير في الإيديولوجية المهيمنة. لتعيد تأكيد ما سعى إليه الحبيب السّايح في رواية “زمن النمرود” من أنّ الرواية لا يمكنها تحقيق ما لم يتمّ تحقيقه في الواقع، وأنّ القناعات العميقة التي تبطّن الرواية القائمة على رؤية ثورية في التغيير والتجديد، انحسرت تحت غياب منطق الــ(نحن) الّذي دارت حوله فكرة التعايش، وغّذاه الذين عادوا من وراء الحدود واستولوا على السلطة، بمجرّد انتهاء الثورة، مُمثلا لهم بمسؤول الحزب الّذي يمارس كلّ أساليب الهيمنة بالخطاب من تحذير وتهديد وإقصاء، وهو جزء من تشكيل الهياكل المعقّدة للسّلطة والهيمنة.

لقد كان موت حاييم وانحسار دور أرسلان بمثابة انفكاك السحر عنهما حين جرّهما الروائي إلى إعدام حقيقي ومجازي، وكأنّ الرواية تقول إنّ التاريخ لم يكن عليه أن يغيّر من وجهته ويتبع المسار الّذي صنعته الرواية، حتى وإن كان الرأي سديدا، لقد كان أرسلان يشعر بالقوة حين كان مع حاييم مثل الظل لصاحبه ودلّ غياب الظل على عدم وجود صاحبه، لأنّ الرأي السديد لا يكون إلاّ إذا ارتبط بمصدر قوة، وامتلاك السلطة الرمزية، ولم يستطع أرسلان وهو يمتلك مصدر المعرفة إحداث أي تأثير، الأمر الّذي يجعل كلّ محاولة في التغيير مجرّد حكاية خيالية مفترضة، ويجعل الماضي الّذي حاول تقويضه من خلال هذه الحكاية المتخيّلة يعيش معنا في الحاضر، لأنّ استمرار التاريخ في الحاضر له قواعد في الهيمنة “يملكه أولئك القادرون على الإمساك بتلك القواعد”
فهل كان يجب على الرواية أن تخرج عن سردية التاريخ الثوري لكي تستعيد شرعيات أخرى كشرعية القائمين بالثورة، وهو السياق نفسه الّذي كُتبت فيه روايات أخرى تعزز هذا الطرح منذ أن بدأت مساءلة الثورة في السبعينيات من القرن الماضي وبعدها من خلال استرجاع نسق المهمّش في الرواية الجزائرية، وخاصة بعد مرحلة العنف، وتأكدت مع مطلع الألفية الثالثة.

قد يكون من البساطة التسليم، ونحن نلم ما تبقى من شتات اليهودي، أنّ بيته وقبره يشكلان رمزية خاصة ترتبط بالامتداد في الزمان، وتجعل حارس المقبرة وهو ابن أحد المجاهدين بمثابة شهادة تؤسّس لنسق تصوّري يعيد بناء الحضور اليهودي في ذهن القارئ، ولكن من السذاجة التسليم أنّ الرواية جاءت لتلغي أسطورة التيه التي ارتبطت باليهود عبر العصور، وتؤسّس للماضي الّذي يصبح حاضرا، تثبيتا لنسق الذميّة في جانبها المخصب التي تجعل لليهودي الحق في الوجود وامتلاك الزمان والمكان مع المسلمين، من أجل بعث النسق الحضاري المشترك، حتى وإن خلّف ذلك النسق الحضاري المشترك القائم على التعايش رواسب إنسانية كعلاقة الصداقة التي شيّدت عليها الرواية. وتقدمها كآلية قادرة على خلق ما يفتقد في الواقع نتيجة النزعة الإقصائية التي تمارس في المجتمع الجزائري، حتى أنّها أصبحت كتعويذة تُكرر، وتزداد رسوخا يوما بعد يوم أمام خطابات سلطوية، تحدّد الهوية بحسب الحاجة إلى العنصر الّذي يضمن لها به الهيمنة.

4-نسق الاحتراز وانكسار المشروع

إذا تمّ التسليم من خلال تعرضنا بعض الأنساق المضمرة في الرواية أنّ الروائي، اتخذ من فكرة التعايش، وحكاية اليهودي وسيلة للحديث عن موقف شريحة معينة من المجتمع الجزائري من الاستعمار والثورة والاستقلال، وساهم هذا الموقف على الرغم من المشاركة في الثورة في عملية عزل مقننة، ليتم الاستيلاء على الثورة، فمن الطبيعي تبرير خاصية المخاتلة التي تنضوي عليها الرواية، والتي ساهمت في تعرية نسق التعايش من خلال الطريقة التي تمّ إيراد حاييم بها في الرواية التي يسقط تمثيله فيها في نوع من المفارقة تؤكد انتماء معينًا لحاييم إلى هذا الوطن لا يختلف عن الانتماء الّذي وضعه فيه المخيال الإسلامي الّذي لا يمكن وضعه خارق نسق الذمية، وتؤكد عليه صمته وبقاؤه وحيدا وموته في آخر الرواية، ما يعني أنّ اللّغة في الرواية “تقوم على تعارضات تراتبية بين الحضور والغياب، الحقيقة والمظهر، الداخل والخارج، المعنى والشكل، وبأنّ الحد الأوّل يكون متفوقا على الحد الثاني، في الوقت الّذي يدرك فيه الثاني بوصفه تابعًا للحد الأوّل” ولذلك كان حاييم حاضرا وغائبا، منتميًا ولا منتميًا، حرّا ومقيدا، حاضرا في الذكرى وغائبًا في الحاضر، ولم يتسن لنا تبيّن ذلك لولا سريان نسق احترازي في الرواية، كان السارد مشدودا إليه هو نفسه الّذي فرض هذا التعارض وهذه التراتبية والّذي جعلنا نقرأ التعايش الّذي انتهى إلى أرسلان في آخر الرواية بأنّه مجرّد فكرة أو ذكرى تعبّر عن تصوّر للعالم وعلاقة الإنسان بالإنسان المختلف في لحظة زمنية معينة من التاريخ. كما تؤكد إخلال النخبة الثقافية التي يمثلها أرسلان بالدور الّذي يسمح لها بالتأثير لاستمرار البنية الاجتماعية القائمة على التعايش، ما يعني قدرة السلطة على بقاء هذه النخبة تحت السّيطرة.

وهكذا انتهى التمثيل الإيجابي الظاهر للأقلية اليهودية، بتمثيل سلبي لها وللنخبة المثقفة، فموت حاييم كان مخططا له في الرواية، فقد كان يمكن أن يهاجر تحت ضغط عنصرية ما بعد الثورة، أو يقتل أو تؤمّم صيدليته أو يحرق داخلها، لكن الروائي أماته بالطريقة الأنسب، وهي القضاء والقدر، مثلما قدّم بموت القايد ما يشبه الإعتذار من خلال الطريقة الميتافيزيقية التي أنهى بها حياته أثناء الحج في مكة، وهي تعتبر من الأدوات التي تستعملها السلطة للتأثير في العقول، وهي نفسها الصّور النمطية التي عادة ما توظّفها السلطة لإضفاء الشرعية عليها.
ولذلك يثير خطاب أرسلان أسئلة مضمرة، من قبيل ماذا لو عاش المعمرون في الجزائر وماذا لو بقي اليهود بل ماذا لو لم يكن هناك ظلم يمارس على الأهالي؟ هل كانت الجزائر تتحوّل إلى جزائر أخرى، وواقع آخر، لا نرى فيه الشباب يغامرون صوب البحر؟

لا شك أنّ هذه الرواية، لا تعكس موقفا فرديا من المؤلف إنّما هي تجسيد لتمثل مغاير بدأ يفرض نفسه كنسق في الرواية الجزائرية والعربية، فالسّايح يكتب في ظل هذا النسق الفكري الجديد الّذي يهيمن على الثقافة العربية، وهو الاتجاه المهيمن الّذي يدخل في تحقيق مشروع ثقافي عالمي، يدعو إلى التعايش، وتختلف استراتيجيات الروائيين، فمنها ما يدخل ضمن استعادة الهوية ومنها ما يعمل على تقويضها، وآخر يسائلها ليثوّر مواطن القوة فيها.
كما أنّ الاتجاه النوستالجي الّذي اقترن بخطاب أرسلان، بعد رحيل المعمرين ونبرة الأسى الملاحظة في حواراته مع حاييم، يمكن أن تضيف مبرّرا آخر للسلطة لتهميش هذه الفئة من الشيوعيين الجزائريين مسلمين أو يهودا، بحجة الموقف الايجابي من الاستعمار مثلما ورد في قول أرسلان: كنا أنا وحاييم قد رفعنا كأسينا نخب المدينة التي بدت لي ونحن ننزل من حي الدّرب راجلين نحو المحطّة كأنّ كآبة شاملة طالت منها أبوابا ونوافذ ومداخل كانت تفتحها وتغلقها أياد أخرى على أنفاس أخرى. عبّرت عن ذلك لحاييم. وافترضت له أنّ المشهد كان سيبدو جميلا ورائعا لو أنّ من كانوا فيها من الأوربيين قبل عامين يختلطون، الآن، بأولئك المواطنين الذين كنا نمشي وسطهم. يتقاسمون الشارع نفسه والفضاء. ويتبادلون التحيّات ونظرات السّلام”

إنّ هذا الموقف اليوتوبي، يدفع إلى التشكيك في الأسباب التي حدثت من أجلها الثورة وطبيعة الذين قاموا بها، وقد يطرح أسئلة من قبيل: ألم يكن قد غرّر بهم من قبل جهات أخرى تبنّت البعثية والقومية العربية، ألم يكونوا وسيلة في أيديهم، وكان الشعب ضحية التعامل مع أطراف خارجية أخرى؟ ألم تكن المآسي التي عاشها الشعب الجزائري وسياسة التجويع والتجهيل، سوى نتيجة طبيعية لمقاومة هويّاتية لم تكن مضمونة النتائج وإن ضمنت خروج المستعمر، ألم تستبدل بنظام مَارسَ ويمارس نفس أساليب الهيمنة. وهي أسئلة افتراضية يمكنها أن تتخذ بمثابة الدليل التوجيهي لإحكام السيطرة أكثر بحجة الحفاظ على مكاسب الثورة واستقلال الوطن.

ورواية أنا وحاييم، تثير احتمال لو حدث وأن مارست فرنسا فقط نوعًا من العدالة تُجاه الأهالي ألم يكن مُمكنًا أن نكون اليوم مثل بعض المجتمعات الديمقراطية كأمريكا مثلا، تشكل بنيتها الاجتماعية أجناس وديانات وقوميات مختلفة، وإذا ثبت حدوث التعايش في عهد الاستعمار ألم يكن مُمكنًا بعد الاستقلال لو بقي المعمرون واليهود والأقدام السوداء؟
بغض النظر عن إمكانية الإجابة عن هذه الأسئلة بالإيجاب، فإنّ هناك حديثا عن ذاكرة مثقوبة، وإيديولوجية فجّة عكست ذلك العنف المقنّن الّذي مُورس ضدّ الأقلية اليهودية وضدّ الفرنسيين الذين ولدوا بالجزائر وضدّ النخبة المثقفة من الشيوعيين بعد الاستقلال بالاستحواذ على الثورة وتزوير تاريخها، وغيرها من عمليات التلاعب السلطوي في صياغة النماذج العقلية التي تضمن لها الهيمنة المستمرّة.

وهذه الرواية، وبغض النظر عن موضوعها، ومن خلال ما بصرنا مِمَا تسرّب من قيم، تلخّص لنا معضلة حياة الإنسان في علاقته بالقيم، فهي تقع بين أمرين كلاهما مرّ كما قال زيغموند باومان “فكلما زاد تحصين القيم داخل الفكر قلّت أهميتها في حياة البشر الذين تشكّلت هذه القيم في الأصل لأجلهم، وكلما عظمت أثارها في تلك الحياة، قلّت قدرة الحياة التي جرى إصلاحها على تذكّر القيم التي دفعت إلى هذا الإصلاح وألهمته” ولذلك نلاحظ تعارضًا بينًا بين الأنساق في الرواية، فهناك نسق أنثروبولوجي ثقافي يسري في مفاصل الرواية، وقد دل عليه ذلك الاحتفاء الوصفي الكبير، بالعادات والتقاليد، والشخصية الجزائرية في حديث أرسلان المتكرر عن دفء العائلة ودفء الوطن، وعن رموز الهُوية التي تتجلى في طُرق العيش وفي طبيعة اللباس وروائح الأكل، والعلاقات الإنسانية، وكلّ ذلك يشكل طبيعة المُتخيل الاجتماعي، الّذي يسرد الإنسان الجزائري من حيث كونه جزائريًا، له نظامه الاجتماعي الخاص، ونسيجه المُتشابك العناصر، وأدواره التي ساهمت بها تلك العناصر في إرساء قواعد التعايش، إنّه المجتمع وقد استقل في الجسم عن طريق التربية والتنشئة الاجتماعية والتعليم والترويض بكلّ قيمه وأخلاقياته بكلّ محددات السلوك والتفكير والاختيار، إنّه ذلك التاريخ الّذي يسكن الأشخاص، وهو الملاذ الثقافي بمفهوم بورديو الّذي يدل على قوة الأصل في الوسط أو صورة التاريخ المشترك ذلك التاريخ المنقوش في الذات وفي الأشياء ولذلك فهذا النسق يشتغل في الرواية من خلال جمالية التوليد الوصفي الّذي أمعن فيه الروائي، ولم يكن يبدو أنّه مُرتبط بتصور أرسلان الشخصي، خاصة وأنّه يحكي حياته الخاصة التي بدت وكأنّها سيرة ذاتية، وليس باتجاهه الفكري، ولا بمركزه الاجتماعي الطبقي كابن قايد، ولكنّه مُرتبط أيضا بالاستعدادات الجمعية مثل أنماط التفكير، والإدراك، والتقدير والممارسة، وما له علاقة بالأفعال اليومية مثل الأكل والشرب والملابس والأثاث والفن وعادات الاستهلاك والتي عجّت بها الرواية، وطبعتها بطابع استرسالي يعبر عن سريان هذا الملاذ الثقافي في النص. كنسق معارض، حتى وإن لم يقصد الروائي ذلك، لسياسة المسخ الاستعماري والتي تدلّ عليها أسماء الأماكن والشوارع التي أصبحت فرنسية. وأمعن التدقيق فيها، لتدل على أنّ التسمية لا يمكنها أن تخترق العناصر المولّدة للتمثلّات الاجتماعية للهُوية الجزائرية، والمتحكّمة في الممارسات، التي هي ترسبات تختفي بين ذكريات أرسلان لطفولته وحياته وتعبرّ عن التاريخ الّذي يسكنه، وتُمارس على المُتلقي سلطة من نوع خاص هي سلطة الأنساق المُضمرة التي “ينجذب نحوها المتلقون دونما شعور منهم لأنّها أصبحت تشكّل جزءا هامًا من بنيتهم الذهنية والثقافية»
لقد أشرنا سالفًا أنّ فكرة التعايش ليست في الوقت الحالي من الأسئلة المُلحة في الثقافة الجزائرية على الرغم من أنّها فكرة مُلحة في الثقافة العالمية، لأنّها وُظِفت في العالم العربي في سياق مختلف عن الّذي وُظِفت به في الغرب، وأشرنا في مقدمة حديثنا عن الرواية إلى التردّد الّذي ينتابنا ونحن نقر، بأنّ هذه الرواية، مجرّد تسويق لفكرة من الأفكار التي تُروّج لها ثقافة العولمة، لأنّ التسليم بهذا الأمر، يجعلنا لا نرى في الرواية سوى وسيلة لتسويق أفكار، تخدم طروحات العولمة، ويكون التعايش مجرّد فكرة تضليلية وضعت حجرة عثرة في طريق الأمة العربية لقبول فكرة التطبيع.

غير أنّ الأنساق المُضمرة التي بصرنا بها، تجعلنا نخلص إلى أنّ الرواية قامت على تفكيك الأسباب التي تسهم في تشكيل السلطة وأساليب الهيمنة في المجتمع الجزائري، والتي جعلته ينتقل من مجتمع متعايش في ظروف قاهرة هي ظروف الاستعمار، إلى مجتمع مُنغلق على هويات جهوية وإيديولوجية، وقد تمّ اتخاذ ذلك الانغلاق كأداة من أدوات تحقيق السلطة وهيمنتها على القيم والمتاجرة بها من خلال الدعوة إلى الثورة على الظلم والاستقلال وبناء مجتمع موحّد ومنسجم لتبني إيديولوجية مهيمنة تضفي شرعية على ممارساتها الإقصائية والسيطرة على الإنتاج الرمزي للمجتمع الجزائري وتتخذ كلّ ذلك وسيلة لبسط النفوذ، والهيمنة على العقول والوجدان.
ولذلك فإنّ فكرة التعايش مع اليهود، التي ليست موضوعًا في ذاتها، يمكن سحبها على التعايش بين الجزائريين فيما بينهم، وهل بإمكانها أن تجعلنا نتجاوز حالة الضعف والهوان التي يعيشها المجتمع والمثقف الجزائري، خاصة ونحن جزء من العالم الّذي يعيش حالة من عدم الاستقرار في كلّ مكان، اعتبرها الغرب أنفسهم من أبرز سمات الحياة المعاصرة، وأشدها عذابا عليهم، فالمثقفون الفرنسيون يتحدّثون عن فقدان الاستقرار، والألمان عن عدم الأمان، ومجتمع المخاطر، والإيطاليون عن اللايقين، والانكليز عن عدم الأمن” فهل استعادة فكرة التعايش تدفعنا إلى الخروج من آثار اجتماع كلّ هذه الحالات عندنا؟

لقد وضعت الأنساق الثقافية الحبيب السايح في أسرها، عندما بدأ في حكاية قصة التعايش مع اليهود في الجزائر من خلال حاييم، غير أنّ فكرة التعايش ذاتها ساهمت في تشكيل دلالات نسقية مبثوثة في الخطاب الروائي، هي بمثابة العيوب النسقية بمفهوم الغذّامي التي كانت ولا تزال مسؤولة عن الحالة الجزائرية في خطابها الإشكالي عن الهوية، وفي طبيعة السّلطة المهيمنة التي تضع الجزائري في جو من الإرباك العقلي والوجداني، مثلما تضع الروائي في رهانات كبيرة وأوّلها رهان الرواية التي أصبحت اليوم كائنًا متحوّلا كأنّه الحرباء، تعيد النظر في ذاتها كلّ صباح، وتغير لباسها ولا تبالي.

الإحالات

يُراجع، لطيفة الدليمي، فيزياء الرواية، وموسيقى الفلسفة، حوارات مع روائيات وروائيين، دار المدى، العراق 2016، القول لجي إم كوتزي ورد كعتبة لمقدة المترجمة، ص11.
– فيزياء الرواية، ص 12.
– سمير خليل، النقد الثقافي من النص الأدبي إلى الخطاب، ط1 دار الجواهري، بيروت/دمشق، ص29.
– يراجع، محمد بوعزّة، تمثلات الهوية في رواية دنيا لعلوية صبح، مجلة تبيّن، العدد20/5 ربيع 2017، ص30
https://www.dohainstitute.org/ar/lists/ACRPS
– مقدمة فيزياء الرواية ص 15 /16.
– الحبيب السايح، أنا وحاييم، ط1/ دار ميم للنشر، الجزائر 2018 ص73.
– الرواية ص ص62.
– حوار. لينكس كالي مع الحبيب السائح.
– الرواية، ص 206.
– الرواية، ص 199.
– زيجموند باومان، الحداثة السائلة، تر: حجاج أبو جبر، ط2، الشبكة العربية للأبحاث والنشر بيروت، 2017 199
– الرواية ص332.
– يُراجع فكرة التطهر في الحداثة السائلة، ص 252/254.
– براندا مارشال، تعليم ما بعد الحداثة، المتخيل والنظرية، ترجمة وتقديم السيد إمام، المركز القومي للترجمة، القاهرة 2010 ص 195.
– الرواية، ص 119.
-الرواية، ص299.
– تعليم ما بعد الحداثة، ص215.
– المرجع نفسه، ص37.
– الرواية، ص ص263.
– زيغموند باومان، الحداثة السائلة ص92.
– سمير خليل، النقد الثقافي من النص الأدبي إلى الخطاب، ص105.
– المرجع نفسه، ص108
– إسماعيل خلباص حمادي، إحسان ناصر، “النقد الثقافي مفهومه، منهجه إجراءاته”، مجلة كلية التربية، جامعة واسط، العدد 13 العراق،2013 ص 17.
– المرجع نفسه، ص231.

الدكتورة آمنة بلعلى
كلية الآداب واللغات -جامعة مولود معمري، تيزي وزو

“مصابا بلون الصلصال” ديوان جديد للشاعر بوزيد حرزالله.

صدر كتاب “مصابا بلون الصلصال” للشاعر الجزائري بوزيد حرزالله، عن دار لارماتون نقلت هذا الكتاب
 من العربية الى الفرنسية المترجمة التونسية  مونية بوليلة.

تناول الكتاب قضايا فلسفية منها:

الشعور بالضياع والعزلة والهجران، الكتابة في مواجهة الحقيقة الضائعة….

موت بديهي و المعنى الحقيقي للآلام الحقة.

الحفر في أغوار الذات، ذ اته وحدها وهو المسكون بسؤال المصير وما سيحمله صلصاله إلى منبعه الأول،

حظ الوصول الى نهاية السؤال، ليجد نفسه معفيا من الأجوبة .

الكتابة في وجه الشك والانتهاء الى أن الذات نقطة البداية والنهاية.

Démon

Le démon

N’a jamais été nôtre troisième

Je le fus

Au moment où je mordillais ses deux pommes

الشيطان

لم يكن ابدا ثالثنا

أنا هو

منذ أن قضمت تفاحتيه.

Avant la mort

Graine d’eau est le sens

Et la parole son désert

Me voilà assoiffé

Comme un crayon abandonné

?Ô poème , quand buvions-nous alors dernier verre

قبل الموت

بذرة الماء هي المعنى

والكلمة هي الصحراء

هاأنا عطشان

مثل قلم مهجور

يا الشعر متى نشرب الكأس الأخيرة .

شهادة في حق الشاعر محمد جعفر

بعد إطلاعي على ديوان في” هفوة الليل أول أسفاري” للشاعر محمد جعفر،وبعد استمتاعي بقصائده الرائعة ارتأيت أن أتحدث عن الشاعر أولا٬ وعن الديوان ثانيا۰
عندما أقول الشاعر محمد جعفر يعود بي الزمان إلى الوراء إلى سنة 1997 تحديدا ،
السنة التي تعرفت فيها على الشاعر محمد جعفر الطالب الجامعي المواظب و الخدوم و المتخلق جدا، أسرتني أخلاقه الجميلة التي قل نظيرها في زمننا هذا ؛بعد تعرفي عليه بأيام قليلة بدأت ألاحظ أن مجموعة من أصدقائه ينادونه بالشاعر؛استغربت لهذا اللقب الذي اندثر مع اندثار بعض الأشياء الجميلة۰
أدت بي الرغبة الملحة وحب الاستطلاع إلى سؤاله عن سبب هذا اللقب٬ فأجابني ببساطته المعهودة :لأني أكتب بعض المحاولات الشعرية ،وبما أني أنا أيضا أكتب كل ما يخطر ببالي سعدت بذلك؛ وتوطدت صداقتي بالشاعر محمد جعفر.
شاءت الأقدار وبفضل الشاعرين الكبيرين عبد الناصر لقاح و المرحوم فريد الأنصاري٬ أن ننتسب إلى محترف الشعر لكلية الآداب و العلوم الإنسانية مكناس ،مع مجموعة من الشعراء أمثال: رشيد بغي – سميرة جودي ، علي الزاهر، حسن معنان ود محمد الديهاجي و البقية استسمحها لضعف ذاكرتي.
محمد شاعر رقيق يعلمك كيف يكون القلب الكبير، يعلمك كيف تضحك وأنت تبكي، يعلمك الصمود وأنت على حافة الانهيار٬ يعلمك كيف تكتب وقد جف قلمك من الحبر، يعلمك كيف تتمسك بآخر قشة، يعلمك كيف تعبر الصحراء القاحلة بقطرة ماء في قربة بالية، محمد شاعر يقدس الحرف ولا يطلق سراحه إلا إذا كان في منتهى الأناقة و الجمال ولعل ديوانه ” في هفوة الليل أول أسفاري” هذا خير دليل على ذلك .
الديوان من الحجم المتوسط يتضمن اثنتين وثلاثين قصيدة ٬من بينها القصيدة التي يحمل الديوان اسمها في هفوة الليل أول أسفاري.
يقدم لنا الشاعر ديوانه الأول في حلة أنيقة رغم الرمادية التي تغلب عليه، وهذا يتماشى و المضمون حيث تتراوح المعاني أيضا بين الأسود الذي يدعو إلى البياض بإلحاح.
يتصدر الديوان الإهداء، وبعد ذلك القصائد وهي تفعيلية مما يضفي عليها إيقاع موسيقي يجعلنا نترنم بالقصيدة طوال فترة القراءة فالشاعر يكتب على المتقارب وهو بحر غنائي .
أما من حيث المضمون فالشاعر أحيانا يعتمد على الحوار فيطلق العنان لنفسه في محاورة من يحب مثل قصيدة: “للعشق تباريح “و”همسات الوداع” وأحيانا أخرى يكتفي بوصف مشاعره و أحاسيسه كما في قصيدة “إلياس عيد ابدي” التي فيها ما فيها من السحر و الجمال٬ يقول الشاعر
وأنا بفؤاد يهوي
.. في عمق العمق
فهل للعمق عمق؟ نعم لعمق المعنى عمق آخر في شعر محمد جعفر ص14 وفي قصيدة :”نشيد الغياب” استوقفتني العبارة الأولى” أعيدي إلي حنيني إليك” ان تأمل هذا المعنى يجعلك تهيم في بحر الجمال الشعري، هل هو البكاء على الأطلال بحلة العصر الحديث؟ أم مناجاة الأحلام الضائعة ؟أم عتاب أم كل ذلك في عبارة واحدة ؟
وفي قصيدة :”وردة للموتى”
يأبى الشاعر إلا أن يشارك الموتى وحدتهم القاتلة مقدما وردته علها تكون عزاء لهم في هذه الوحدة ۰ولعل هذه الوردة تجسدها القصيدة نفسها التي وجهها إليهم الشاعر
معبرا عما قد يحسون به ،أو على الأقل ما يتصور أنهم يحسون به ،أما في قصيدة:” شارع الحور” يقول الشاعر في مطلع القصيدة:
شارع مشرع
يستبيح خطاي
وخطاي مرايا لما قد يجئ به
الحلم في ليلة عابرة
تصوير شعري جميل: يربط الشاعر بينه وبين الشارع بشكل قوي ،فهما يشتركان في صفة الشرود وفي صفة الهوى إلا أن الشارع يداري هواه وهوى الشاعر يبوح بالشوق العنيد ص 26
وفي قصيدة: “هذا ظلي” يعبر الشاعر عن التشرذم النفسي ،الذي يجعلنا أحيانا ننفصل عن ذواتنا لنتعرف على أنفسنا أكثر، وهنا الشاعر يتحدث عن ظله هل المقصود بالظل ذلك الخيال الذي يتبعنا ويحاكينا۰ أم الظل المعنوي المتمثل في أرواحنا المغلق عليها في سجن الجسد، ا أنها حالة نفسية شعرية بامتياز استطاع فيها الشاعر أن يرسم معاناته بالوشم،
من الصعب أن يزول: نفس الوجه الموشوم بآهات الزمن.
كما يشير الشاعر إلى انفلات العمر بجملة شعرية جميلة لربيع العمر الهارب والقلق يقول:
أحيانا يشبهني، قلقا كالفجر.

هذه القصيدة بما فيها من التصوير الحسي يجعلك تدخل العالم الشعري لمحمد جعفر منحنيا لشموخ الحرف.

أما قصيدة تأهب:
فهي لا تتعدى بضع كلمات لكن هذه الكلمات تحمل دلالات قوية لان الشاعر أراد أن يبلغ رسالة قوية وملحة في أقصر وقت عندما نسمع أو نقرأ العنوان نتخيل أنفسنا في٬ ساحة الحرب ونتخيل الجنود على أهبة الاستعداد لخوض المعركة ،لكن سرعان ما يتحول هذا المعنى القوي المخيف٬ إن صح التعبير إلى معنى رومانسي جميل بفضل الكلمة الموالية السهو،التي هي على العكس تماما تدل على الهدوء و الاستسلام و الخضوع ۰
وعندما نكمل الجملة نجد كلمة أشد خضوعا من التي قبلها وهي المقلتان اللتان تغنى بهما معظم الشعراء. هنا يتحول المعنى إلى استسلام كلي لحد الشرود ونسيان الذات وعندما نصل إلى هذه الغيبوبة الجميلة فإن الشاعر يوقظنا بلطف ويقول: “أتوارى نسيما” فهذا التلاشي جعله يتحول إلى نسيم يداعب هذه الجفون إلا أن هذا التحول وهذه المداعبة لم يكفيا شاعرنا، فأبى إلا أن يصير دمعة من دموع هاتين العينين ولو في الحلم.
تقرأ النص وتتخيل الحكاية كأنك أمام مشهد سحري، يأخذك عاليا في سماء الحلم المطرز بالحرف البديع.

المجال لا يسمح بالتطرق إلى كل مواطن الجمال التي يزخر بها هذا الديوان، لكنني سأختم بملاحظة بسيطة وهي أنه رغم المظهر الحزين الذي قد يوحي به الديوان للوهلة الأولى٬ إلا أن المتأمل للنصوص يكتشف بذرات الأمل التي يزرعها الشاعر في نصوصه بطريقة أو بأخرى :
أشكل من همسة الوقت صبحا
طويل المدى ما استطعت
قصيدة فضاءات ص20
يا صاحبي زادنا في الطريق
بشائر صبح قريب وضحكة حلم
قصيدة شهقة أحلام ص27
أشعل خلف القلب العربي
شموعا تمحو خيبة هذا الحزن،
قصيدة بغداد الحلم المفجوع ص 31.

بقلم :ليلى المليس

باريس:28/03/2012

 

المدن أرواح بعضها من محبة و بعضها الآخر نجعله مسكننا عند عتبة الغياب

لشبونة ، وردة بوقاسي

لشبونة

بين طيات الدليل السياحي كنت أبحث عن مدينة تجعلني أتنفس من جديد ، بعيداً عن مساحيق المدن العالمية و أنوار المدائن الاصطناعية ، كنت أبحث عن أسماء، عن أرواح عن عبق، عن عطر ، يعيدني إلى زمن العروبة الغائب و الحاضر في مكان ما. كنت أبحث عن وهج يبعثني من جديد لتلوين ملامح واقعنا، عن بصيص أمل يعيد ترميم إنكساراتنا، عن تمثال وسط الركام، كنت أبحث عن نفسي بعيداً عن نفسي المتعبة، من أخبار جرائد الصباح، التي تجزم أن لا غداً لنا وأننا اتفقنا ذات يوم ألا نتفق أبداً. كم نحتاج الي بعض الهروب لكي نرى من جديد، حملت حقائب أمتعتي بكثير من الفوضى ولكن بتميّز الوجهة، فكان السفر وكانت لشبونة

وجهتك السعادة

وجهتي الأولى بعد نزولي من الطائرة، البحث عن محطة الميترو في مدينة تجعلك تطرح العديد من التساؤلات والبداية كانت يافطة المعلقة على المرآة ،كتبت عليها “وجهتك السعادة” جعلتني أفكر ليس في هل سوف تكون الوجهة فعلاً سعيدة ، بل في تناول مفهوم السعادة عبر الأنفاق. لم يتعود معظم الناس على طرح بعض الأسئلة، خصوصاً الجوهرية منها مثل هل نحن فعلاً سعداء؟ كيف نصل إلى تحقيق السعادة الحقيقية؟ وغيرها من الأسئلة رغم بساطتها لكنها تحتاج إلى تفكير وعمق كبيرين، لذلك إزدخرت المكاتب بمختلف التوجهات النظرية خصوصاً في علم النفس، لكنها عجزت على تفسير المعنى الحقيقي للسعادة. هل نحن فعلاً سعداء؟وكيف نقيس السعادة؟ وكيف نحكم على هذا الشعب بأنه سعيد؟ هل من خلال نظام وتطور البلد، والحفاظ على كل ماهو عتيق ، هل من خلال ضحكات المارين وأفراح تغنت بها لشبونة؟.. سأكون سعيداً عندما أتمم دراستي، لا بل عندما أجد وظيفة،كلا عندما يكبر الأطفال أو عندما أغير البلد الذي أعيش فيه. قد نكون في بلد متطور تكنوجياً ورغم أنوارها الساطعة، يبقى نور سعادتنا الداخلي منطفئ، وقد نكون في بلد متخلف وبكل تناقضته سعداء، فإن مفهوم السعادة الحقيقية، بكل تعقيداته يبقى بسيطاً جداً، يكمن في داخلنا وفي رؤيتنا للأشياء وبالعيون التي نرى بها، في ارتشاف قهوة الصباح مع من نحب، في دردشة مع صديق يفهمك، في نثرات التفاؤل التي نزين بها أيامنا، في حلم جميل نسعى لتحقيقه، في عطائنا للآخر بدون انتظار مقابل، قد نكون فعلاً سعداء بغض النظر عن البلد الذي نعيش فيه. هي سلام داخلي، قرار ، هي أن نعيش اللحظة، في محطات الحياة، وصوت محطتي يخبرني أنني وصلت إلي لشبونة فنزلت بكثير من الشوق ، و الفضول و الترقب

لشبونة أما زلتِ تذكرين من مرّوا من هنا ذات يوم؟

أما زال الحنين مباغث؟ طيلة تجولي في لشبونة، راودني سؤال أينما ذهبت خاطبت فيه أزقة تتحدث بكل اللغات، وشوارع تتزين بكل الحضارات المتعاقبة، لمدينة يزيد عمرها عن ثلات ألف سنة الواقعة، على سبع تلال : لشبونة..أما زلتي تذكرين من مرّوا من هنا ذات يوم؟ أما زال الحنين مباغثأَ؟ إلى من مرّوا من هنا طيلة خمسة قرون كاملة، أما زال الحنين لباب المضيق وباب الفاما وباب البحر، وباب الحامة وباب المقبرة، وباب الشمس، أين جمعت جل العاشقين بحثاً عن الماء والياسمين والحياة؟ أتذكرين كل من طارق بن زياد، عبد الرحمن الأوسط، موسي بن قسي وآخرون من تركوا بصماتهم، أشجانهم وانتصاراتهم في مدن الإنسانية المتعاقبة، من تركوا عبقهم يفوح في الأرجاء من فسيفساء، من عروبة، من محبة وسلام. ليشهد البحر حكايا الإنسان المقفلة بآكاليل الصمت، التي تحتاج إلى من يبعثها من جديد في وهجها الأزرق
أما زالتِ الحمة كما أطلق عليها العرب، والتي تسمى اليوم “ألفاما” تتزين بأرواح من مرّوا بها، و تغتسل بحبيبات الكرم وتتعطر بلغة الضاد ، هي ثلاتة آلاف كلمة عربية أدخلت إلى اللغة البرتغالية. وسط الجامع الكبير والقصبة العريقة، آثارهم واضحة وضاربة في كل الأزقة حتى في بسمة شعبك الطيب الذي ما زالت زوايا الشوارع والمقاهي والحانات والشرفات المزينة بأكاليل الورود جميعها تشكل نقطة إلتقاء بينهم لتبادل أطراف الحديث، واقتسام رغيف الصباح، بعيداً عن زحام التكنولوجيا، وببريق من سحر الشرق.

هنالك

هنالك ..هنالك في كل زقاق يبتسم الفجر صباحاً لتحكي لنا أحبال الغسيل على شرفات البيوت قصص العشق الأبدية، وأنا أخطو خطوات لشبونة تذكرت رواية قرأتها منذ سنين وهي بعنوان “ليلة لشبونة” للكاتب أريش ماريا ريماك، تضم عبارات فلسفية عميقة، أين فرّ فيها البطل من الحرب النازية حاملاً ذاكرته المتعبة وسط الدمار ، والوحدة حين كان الحب الشيء الوحيد الذي جعله يتمسك بالحياة، ليكتشف نفسه من جديد، لم يكن لديه خيارات عديدة إما أن يستسلم للموت، ليموت مرة واحدة أو يعيش النبض ليحيا آلاف المرات. كم من الحكايا تشهدين عليها لشبونة؟ أأحبالك تحتفظ بقصص العشق العربية؟ أنهايتها حزينة مثل معظم قصصنا؟ أم مازلتِ تبحثين عن أحفاد يتحملون رحلة البحث بين أرصفة الشوارع، وقطع الزليج العتيق وأنين جدران البيوت القديمة، وبوح المعمرين وغبار الكتب، وصمت وغموض اللوحات الهاربة، من عتبة التاريخ لكتابة حتماً أجمل قصص العشق العربية

على أنغام الفادو

صوت حزين ينادي من بعيد جعلني ألتفت مراراً، صوت لايقاوم يذكرني بشيء قديم ما، كتوق عميق بداخلي للبحث عنه في ذاكرتي ، صوت جعلني أتبعه وهو مزيج من الطابع الإفريقي، و الأندلسي العربي و البرتغالي، إنه “الفادوا” وتعني هذه الكلمة القدر بل أرواح المارين العابرين ، من هنا ترجموا أقدارهم، ألمهم، معاناتهم وآمالهم في نغمات موسيقية أبرزها تتحدث عن أمواج البحر والفقر، الفقدان وثوارات الشعوب
كلمات “الفادو” لا تحتاج إلى قواميس لغوية، يكفي الشعور والإحساس بها لفهمها آنها لغة النفس ممزوجة ببوح المكان. في كل خطوة تتنفس تاريخاً وحضارة، وتشم رائحة الإنسان مما جعلها موسيقى ممزوجة بقطرات التعب والليمون للطبقة العاملة والمهاجرين والباحثين عن الوطن و الذات. إنه وتر القلب من أعماق أقدم أحياء لشبونة، هو هروب ومحاولة نسيان الواقع المعاش اليومي، هل كانوا فعلاً فقراء؟ الباحثين عن الجمال، في أشجان الروح؛ كانوا فعلاً فقراء حسب المصادر التارخية ولكن كم اغتنت بهم الثقافة. لشبونة جعلتني أمشي بدون توقف، وبدون الإحساس بالتعب، كيف ذلك وأنا أسير بين خطوط الماضي والحاضر معاً إلى أن وصلت إلى “سينترا” مدينة القصور الأسطورية والقلاع، الواقعة في قلب الطبيعة الجبلية والتي سماها الرومانيون “جبال القمر ” مدللة النبلاء و العائلة المالكة، أتذكرين من حاولوا تسلقكِ بحثاً عن الجمال والحرية، بسحرك كتبَ الشعراء و الكتّاب و الصامتين، الثائرين والمنهزمين، ومن انتصروا بكل ذواتهم لتنعكس رائحة التاريخ العربي المغاربي القديم في سينترا. وسط لشبونة لا تحتاج إلى مرشد سياحي، فكل الأماكن مفتوحة أمامك، فأنت وسط متحف متجول، تجعل منك ملكاً بين قصورها المتعددة، وتائهاً وسط أزقتها التي كتبت بأنامل حكايا الإنسان

بقلم وردة بوقاسي

Ouarda BOUGACI

 

عن اللهجات التي أصبحت تُهَدِدُ أمننا اللغوي سأتحدث…زهرة مبارك

واش يخصها كلمات قاسم شيخاوي الشاعر الجميل لو أستعملها كرسالة لإيصال ما أريد لمحبوبتي
“مريم رسلتلي تعاتب وتلوم …واعُمْرْ الحُب اِيلاَ حْلاَ من دون عتاب”
أنا أحب لهجتي لأنها لهجة أمي أحب لفظة “اما” على MAMI و”ابا” على PAPI أحب لهجتي لأنها مني لأنني أنتمي إليها.. لأنها من شوارعي وعليها كبرت، يا قلبي يا حناني، توحشتك، صباح الربح،….وحمامة جات لعندي تتقمرد.. وعزوني يا ناس
عن اللهجات التي أصبحت تُهَدِدُ أمننا اللغوي سأتحدث،
ألا تلاحظون يا قوم ما يحدث ،هل تنتبهون أن أزمة اللسان الجزائري تجاوزت اللغات يعني تجاوزت إن كنا نلثغ بالعربية أو الفرنسية وأصبحت اللهجة السورية واللبنانية تجتاح اللسان بالوسط المدرسي والعائلي
اعترف ولا أنكر أنا استعمل لفظة أو خلينا جملة “صباحوا كيفوا الحلو” لكن لا يعني هذا أنني أجري محادثة لساعات وأنا أتكلم بالسوري أو اللبناني
ايه نعم تلك اللهجات يراها مستعملها”طبعا من غير أصحابها الحقيقيين أشقائنا السوريين واللبنانين “مقنعة لا ومزوقة وقريبة من القلب وسهلة وممتعة ومغرية، يعني حينما تتحدث مع الآخر بها ينصت ينتبه لأنها مختلفة ولأنها من التعبير اليومي لسلسلة مسلسلات تعلق بها وتُذكِره بإبطالها فيجد المتحدث والمتلقي مبررا في استعمالها وبالتالي هجر اللهجة الأم.
غريب انه اصبح كل شيء ينتجه الحقل الجزائري نراه قاسيا وباردا ولا نثق به بدأ بعاداتنا وتقاليدنا مرورا بحملة استهلك جزاري
الطفل حينما تنبهه للخطأ بلهجة غير الجزائرية أصبح يفهم ويتفهم
لماذا هذا التنكر لماذا المغربي فرض لهجته القريبة من لهجتنا في الخليج ولم ينسلخ عن لهجته ؟
لماذا اللبناني لا يدخل في معرض أحاديثه اللهجة المصرية والعكس ؟
المسألة يا سادة لا تتوقف عند اللهجة بل حتى في الإشارات ولغة الجسد
نعم من حق الكل أن يتكلم بالأسلوب الذي يراه مناسباً لكن أن نرى أطفالنا يقلدون أبطال الأفلام والمسلسلات المدبلجة في حديثهم فهنا يجب أن ندق ناقوس الخطر على أمننا اللغوي .
الإستراتيجية تتعدى مسالة الترويج لمسلسل بل أكثر ،إنها تضرب حقول ومجالات خطيرة ،إنها تضرب لسان الشعب والبلد الذي يكفيه تنازع التيارات الإيديولوجية بين اللغات الرسمية والمستعملة.
لسانك ولساني ولسانها هو لسان الأمة هو من القيم التي يجب أن نطورها لا أن نمحيها
ألستم منتبهين بأننا لا نجيد لغة واحدة سليمة بمعنى التمكن منها بل لساننا خليط من اللغات ،نتكلم بالعربية والانجليزية والفرنسية وبمختلف اللهجات في محادثاتنا .
والأكثر هناك فجوة بين ما نكتب ونلثغ تجده يتكلم بالفرنسية لكنه يرتكب اخطاءا فادحة في الكتابة والحديث قياس حتى على اللغة العربية
و يا ويلي ان صرنا بفعل الاحتكاك مع مختلف النازخين الى الجزائر نتكلم لهجات مالي ونيجيريا

لا تقولون أنني متخلفة فانا مع التفتح على اللغات ومع أن نتعلم اللغات الحية التي ترفع المجتمع من التخلف اللغوي الذي يعيشه لكن خليكم جزايرين …………………………….زهرة مبارك

مسروق من النعاس ، سلوى لميس مسعي

“مسروق من النعاس ”
أول مجموعة شعرية للكاتبة والإعلامية سلوى لميس مسعي من الجزائر
صدرت مؤخرا عن دار الألمعية للنشر والتوزيع في 122 صفحة المجموعة الشعرية الأولى للكاتبة والإعلامية سلوى لميس مسعي ، رسم وصمم الغلاف خصيصا الفنان التشكيلي والنحات علي يماني من تيارت .
المجوعة تضم نصوص نثرية فصيحة تندرج ضمن نصوص الومضة اختارت الكاتبة الإشتغال على مواضيع عديدة تصب في مضمون واحد وهو “القلق الوجودي” دون طرح أسئلة كثيرة لكن بإجابات “سرقت من ليل حياتها الحالك” حتى تنسج رؤى ومعان جديدة من شأنها أن تكون عتبات جديدة لتجاوز خيبات الحياة وانكساراتها في سياق المعاش حيث تقلب الظاهر إلى معناه الخفي كأن تقول في مقطع من المجموعة “. وكل هذه الإحتمالات شرك عنكبوت وجع ولادة لا منته .. رعد شتاءات ينذر بالزلازل والنزوات..”و” ساورت الندم حتى أورق في تياجين الروح نبت في انحداراته عقل ظلي”
تعتقد الكاتبة في دردشة بخصوص مجموعتها المطلقة حديثا أن مفهوم المعنى قيمة انسانية لا يمكن ان تتجلى إلا بالتجريب الوجودي والمعايشة داخل الحالة وما الشعر سوى مهماز الحالات ومحركها وحيث يبدو كما لو انه القالب الذي يصب فيه معدن الحالة يتجلى الشعر الحقيقة الإنسانية المسكوبة في معنى الحياة .
في هذا السياق اعتمدت على لغة خاصة حميمة مع مجموعة الرؤى المشكلة ترتب في تصنيف “الكلمات المجردة ” على غرار العناكب ، الجماجم ، الأحراش البرية ، القفار ، الرماد ..وغيرها في محاولة جادة للهروب باللغة بعيدا عن السائد والباهت والعادي وأيضا الدخول إلى ما أسمته ‘غرفة الأنا” وخلقت من خلالها فضاءات وتهويمات في محاولة لاستنطاق الساكن ، بدءا بالجسد حيث تقول “الجسد ما الجسد..الجسد فجر مكسو بالعتمة” إلى أن تقول في مقطع آخر “أنت سرك البلاغات وأنا جهري المعاني” و” أقف عند حدودك والرعشة تنفضني خوفا من الإنزلاق في الهوامش البالية” و “في الغصن المائل يختبئ هزولي “و” من النبع أسقي عطش التكهنات” وغيرها من المقاطع التي تبعث إلى قراءة أخرى يمكن سرقتها من اللحظة ذاتها.
وبخصوص تعاونها مع التشكيلي علي يماني قالت أن ما يتمتع به يماني من حس في الفهم وعمق في الرؤية الفنية مكنها من محاولة خوض تجربة مشتركة يترجم فيها الفن التشكيلي الحروف والكلمات ويقرب الأدب من الريشة واللون بحيث يمكن لكلاهما معرفة نفسه من خلال الآخر.
وسلوى لميس مسعي مواليد مدينة عنابة تصنف من الجيل الذي ظهر في التسعينيات تعمل في الصحافة الثقافية منذ سنوات شاركت في عدة ملتقيات شعرية ، أسست نواد ثقافية منها “مقهى شعبي” وهو ناد مفتوح على جلسات مع الفنانين بساحة الثورة بعنابة وتشرف منذ سنتين على تظاهرة ثقافية تمازج بين الأدب والفن التشكيلي والموسيقى والرقص التعبيري ، لها تحت الطبع “ثلاثية الموت : /عابرا مطار الموت بلا تذكرة / شبح الحقيقة/ مجلس عزاء / .

لغة العاصفة… حبيب مونسي

لغة العاصفة…
هممت أن أدير دفة السفينة إلى وجهة أخرى عائدا إلى بلدي… وكأنه بيدي الساعة أن أبطل ثورة الموج، وأن أتحكم في شدته.. أن أقول له كفى لقد غيرت رأيي، لن أعاندك، لن أصارعك.. أريد العودة إلى بلدي وأهلي .. لو فعلت وأدرت العجلة لضحك مني الموج، وقهقهت الريح.. ما زلت في غفلتي أظن أن الأمر ملك يميني.. ليس أمامي إذن سوى التفرج على زعقات العاصفة وهي تمطر ظهر السفينة بسيول عاتية من الماء المالح ورائحة البحر. وأن أترك المركبة تتقدم في الظلام الدامس، لا أعرف لها وجهة.. إنه الاستسلام التام..
عجيب أمر الإنسان ! قد يجد في لحظات الضعف والانكسار من الأفكار ما يجعله يتحمل المستحيل من أجل تبرير الموقف الذي هو فيه.. ربما هذا هو شعور من يقبل على الموت وهو يعلم أن لا خلاص له مهما فعل في نفسه.. إن كل خطوة تقربه من المقصله.. له أن يجعل من مشيته تلك مشية الشجاع الذي لا يهاب الموت، فيعطي لموتته رمز التضحية من أجل فكرة، أو من أجل الآخرين.. أن يجعل ذكرى إقباله على الموت مثالا.. و له أن يجعل منها صورة للذعر والخوف، صورة للصراخ والعويل الذي لا يقدم ولا يؤخر، لأن الموت في نهاية الممر. هل له من العقل والثبات ما يجعل الحركة الأولى مجرد تمثيل تغذيه الصور البطولية التي قرأ عنها. أم أن العقل يطير من عقاله أمام شبح الموت.. هذا الموج من حولي لا يترك لي فرصة الاختيار.. فإذا سلكت السبيل الأولى فمن ذا سيذكرني، ويذكر موقفي من الموت ؟ إنني هنا أكثر وحدة من الوحدة نفسها.. أكثر من الضياع.. إنني لا شيء. إن ما يعتريني الآن من فكر، لا أجد له من مبرر.. ولكنه شيء عجيب وكأن الذاكرة تستفرغ محتوياتها في سرعة متنامية. وكأنها تريد أن تقول كل شيء في اللحظات الباقيات.. إنها أشبه شيء بالنابض الذي ينفرط فيلتف حول نفسه في سرعة جنونية.
استسلمت لحركة المركبة، وأغمضت عيني إذ لم يعد الإبصار مجديا، خاصة وأن الملوحة أضحت تؤلم الحدقة.. وهنا حدث انقلاب آخر.. انقلاب في المشهد.. انقلاب في القيم والموازين. فالذي كنت أخاف منه، وأسعى إلى تحاشيه.. أبصره، فتأخذني أبعاده، صار يتخللني عبر السمع.. صارت الأصوات تحجِّم الأشياء، تلبسها أشكالا مختلفة، تعمل مخيلتي على تلوينها، وتحديد أشكالها.. أراها في عتمة الذات تهدر هديرا مضاعفا تضفي عليه حركة المركبة الجنونية هولا إلى هول.. كنت أقول لنفسي: إن الموت أهون وأنت تراه، منه وهو يأتيك مدلجا، محمولا على تخيل جامح، لا يعرف لكوابيسه أولا ولا آخر.
-الأمر مختلف جدا عما كنت ترى.. أليس كذلك ؟
قلت في شبه شرود:
-نعم.. وكأنني انتقلت من عالم إلى آخر..
ثم انتبهت فجأة إلى صوت الشيخ الضرير وهو يمسك بيدي. فصحت به:
-ما الذي جاء بك ؟ لماذا تركت أمن المقصورة ؟
ضحك الشيخ وقال:
-أي أمن يا بني ؟ هل ينجيني من الموت مجرد بقائي في المقصورة ؟ لا.. لا. أريد أن أشاهد العاصفة وهي تكتسب من عصفها حقيقة اسمها.. أريد أن أرى كيف يتشكل الخوف منها في نفسي ؟ أريد أن أرى صورة من صور الموت، وشكلا من أشكاله..
أمسكت به وقد مالت السفينة إلى جنبها الأيمن ميلا شديدا كاد يذهب بي وبالشيخ المجنون، وصرخت في وجهه:
-أنت ضرير لا تبصر شيئا.. عد من حيث أتيت.
هز العجوز رأسه وقال:
-ظننت أنك قد وعيت الدرس.. لست أنا الضرير بل أنت.. فيما ينفعك البصر وأستار الظلام الدامس تطوقك من كل ناحية، إنك إن أخرجت يدك لم تكد ترها.. ومن هنا مأتى هلعك وخوفك. أما أنا فلا أعول على البصر الآن لأنني جزء من العاصفة.. أنا وأنت والريح والمركبة والموت.. كلنا أجزاء من العاصفة. فلماذا تتمادى في الكذب على نفسك وتظن أنك قادر على أن تعزل نفسك عنها.. إنها قدر.. والقدر ليس من شأنك أنت.. لو حاولت أن تتوحد بها لما شعرت بالخوف.. اجعل من نفسك بعضا منها.. أنت الآن بعض الريح، وبعض الماء وبعض النار وبعض الطين الذي يشكِّل العاصفة.. إنك لن تشعر بالعداوة تجاهها، ولن تشعر هي بالغضب تجاهك.. وإن علمت منك فهمك ربما سكنت لتوها..
ابتسمت في الظلام ، ودفعت الشيخ أمامي إلى ساتر المقصورة، وأنا أشعر بجسده الهزيل يرتجف من شدة البرد، ثم ألقيت عليه بعض شراع انتزعته يد الريح قبل ساعة. ثم سمعته يتمتم:
-اعلم أنه لاشيء ينجينا مما نحن فيها سوى التعاطف مع العاصفة.. أن تكون معها لا ضدها.. أن تفهم عنها لغتها، لا أن تقابلها بالصمم والعمى.
كانت نبرته الهادئة تشعرني بشيء من اليقين في صدق حديثه، وكأن الأمر متوقف على تعاطفي مع العاصفة.. ولكن كيف أتعاطف معها ؟ كيف أكون جزءا منها، وتكون هي جزءا مني؟
أغمضت عيني، واستسلمت لحركة المركب القلق، وأرخيت عضلاتي، ثم استندت إلى السارية الوسطى، وشددت حبلا منها حول خاصرتي يشدني إليها.. حتى أكون أولا جزءا من المركب، ليتحول بدوره هو إلى جزء من العاصفة.. كانت الفكرة أول الأمر مثار سخرية في أعماقي، ولكنها تملكتني شيئا فشيئا، حتى غدا الاضطراب هدهدة يتجانس معها جسدي يمينا وشملا، ارتفاعا وانخفاضا. وإذا بشعور غامر يملأ صدري بما يشبه الفرحة الطفولية،وإذا بالمناظر المزعجة تتلاشى من خلدي، فاسحة المجال أمام رؤى بعيدة الغور، عميقة المعاني.. لقد حققت النقلة إلى عالم العاصفة فلم تعد الرياح الهوجاء مثار خوف في نفسي، بل أضحت أشبه شيء بموسيقى الكون تنبعث من حولي صاخبة رنانة، جهورية الصوت، تتخللها فترات صمت، وكأنها عزف عازف يستفرغ ما في رئتيه، ثم يعود بعد الشهيق الطويل إلى النفخ.. أمر عجيب حقا لا شيء فيها يخيف.. لا شيء فيها يرعب. بل حركة من حركات الكون كنت استعظمها خوفا من هلاك نفسي التافهة، وقد أضحيت أتلقاها الساعة وكأنها الذروة التي تبلغها الانفعالات الصاخبة قبل أن تذهب ثورتها بددا، ويعقبها السكون والهدوء.. لقد وجدت للسكون طعما آخر.. طعم لم أكن لأتصوره قبل هذه الحادثة. وكأنه لابد لي من معرفة الثورة وتذوق آثارها قبل أن أعرف طعم الهدوء.. إن الهدوء فاكهة لا يدرك مذاقها إلا من خلال مذاق الانفعال. فكل منهما شاهد على الآخر يعطيه من حقيقته ما يكمل به حقيقته الخاصة.. إن انحيازنا إلى أحدهما يعنى جهلنا بحقيقة الآخر.. إنه التطرف الذي يقيم الحياة على جانب واحد من العاطفة.. الجانب الذي تعودنا استسهاله.لأنه لا يثير فينا ردود أفعال قوية.. ربما كان طلب المغامرة عند البعض منا من هذا المنزع، يحاول بها الخروج من المستسهل المستملح إلى الشاذ المستصعب.
لم أشعر باستقرار المركب وانسيابه في ريح هينة، حتى شعرت بدفء أشعة الشمس على جسدي. وخيل إلي أنني نمت واقفا، وأن الزمن قد جرى ساعات طويلة قبل أن أنتبه إلى نفسي. وفتحت عينيي لأصادف ابتسامة الشيخ الضرير، وكأنه ينظر إلي في سخرية. ثم نظرت حولي إلى صفحة الماء وقد غدت أديما مسطحا، تتلاعب في سمائه نوارس بيض، ترتفع إلى عنان السماء قبل أن تنقض على الماء، تصطاد سمكه. ثم سمعت همس الشيخ أمامي يقول:
-ألا تشم ريح الأرض ؟

الدنيا يا سادة “زْهُورْ” – زهرة مبارك

عن ذلك الذي لا يتأخر عن العمل لأنه كسول أو لأنه يُحب أن يأكلها “بالرّاقدة” كما نقول،
أتكلم عن الظلام و عن أولئك الأطفال اللذين يتأخرون عن الالتحاق بمدارسهم بسبب سائق فاشل من فئة المتكاسلين الظالمين اللذين لا يستعرضون عظلاتهم إلا على أمثالهم من المساكين ونسو أنهم “قلاليل” بسطاء تماما مثل اطفال الأرياف
عن اللذين لا يرتكبون الخطأ عن سابق إصرار وترصد بل لأنّ “المَتعُوس متعُوس”
أتكلم عن فتاة لا تتعدى السابعة نجت من محاولة اغتصاب و”لِلله الحمد” لكنها لم تُعَتِبْ باب المدرسة مذ ذلك اليوم بسبب الخوف من “العيب”
أتكلم عن عبقرية مهمشة فقط لانها ليست صديقة معاليه أو لأنها لا تضع عطر “شانيل5”
أتكلم عن فاتنة تصنف في خانة العوانس ولم تستطع أن تتزوج وتُنجب طفلا لأنها فقدت عذريتها بسبب “كلب سلوقي”،
عن لملمة المجتمع لألم مغتصبة بتزويجها من مغتصبها المجرم.
عن اللذين لايستُرُون ،عن اللذين يفضحُون ..
أتكلم عن إمراة تضاجع زوجا بإكراه وما أقساها من لحظات لا تشعر بأساها ولا بِثِقلها إلا من تزوجت فقط لتُغير قسوة بقسوة ،أقصد أنها بخيارها فضَلَتْ قسوة رجل غريب على قسوة أخ فاسدٍ، مُعقد، ظالم ،متوحش، كسول ،مخمور وووو
أتكلم عن عامل يُخصم من راتبه لأنه أوصل أمه إلى الطيب ولا يخصم مديره لزميل له “يضرب بالشهور متغيب ” وشَهْرَهْ “طالع”..
أتكلم عن التمييز وعن “الزهر” يا ناس
ولأنه يحدث أن ينجح الفاشلون ،وتَفتحُ الدولة باب التوبة للمجرم و لِمُدَمِر الوطن حتى و تغلق كل السٌبل المؤدية إليها في وجه سارق كيس حليب لرضيعه
فإنّ الدنيا يا سادة “زهور” كاين إلي تعطيه وكاين لِتُضُربه بضربة تْوَكِيه ، بالعربي هناك من تعطيه وهناك من تضربه ضربة فتسقطه